جاء الإسلام بشريعة غراء متكاملة تشمل كل جوانب الحياة المادية والمعنوية والنفسية لم تترك مجالا لافتراء أو تشكيك فى صلاحية هذا الدين في كل مكان وزمان.
ومن أهم هذه الجوانب التي اهتمت بها الشريعة الغراء، كفالة اليتيم، ذلك العضو الضعيف الذي فقد العائل والمعين فى دنيا كانت قبل مجيئ الإسلام غابة يأكل فيها القوى الضعيف، تلك حقيقة ثابتة وجزء من الظلام الذي عمَّ الكون قبل ميلاد النور محمد صلى الله عليه وسلم ذلك النور الإلهى الذي أزال عن البشرية ظلامها الدامس ومد يد العون والرحمة لأولئك البائسين وفتح أمامهم آفاقاً رحبة من الأمل.
وأكبر دليل على ذلك ما قدمته الشريعة الغراء من تشريعات لحماية اليتيم ورعايته، نصَّ على ذلك القرآن الكريم والسنة النبوية، فالقرآن الكريم وجَّه رسائل عديدة فى مواضع كثيرة في آيات خاصة بالاهتمام باليتيم والإحسان إليه، فقال الله تعالى: “وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ۖ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” ويقول تعالى: “وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً” (النساء 36).
وفى الجانب الآخر حذَّر الحق تعالى كل من ولي أمر اليتيم ونهي عن الاقتراب من ماله إسرافًا، فقال تعالى سبحانه: “وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوف” النساء: 6، ثم يصور الحق سبحانه من يأكل مال اليتيم بصورة من يأكل النار فقال: “إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً” النساء :10، كما يحذرنا الحق سبحانه من قهر اليتيم ونهر المسكين فيقول: “فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ* وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ *وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ” (الضحى 9 11).
اما السنة النبوية التى جاءت على لسان الصدق فقد اهتمت باليتيم وجعلت منه سببا من أسباب دخول الجنة، وكذلك جعلته سببا من أسباب دخول النار، ولقد حفلت كتب السنة بأحاديث نبوية شريفة وقصصا من الأثر تسليط الضوء على رعاية اليتيم، فمما ورد في هذا السياق أن رجلاً جاء يشكو قسوة قلبه- والحديث رواه الطبرانى فى الكبير وصححه الالبانى- عن ابى الدرداء- رضى الله عنه- قال: “أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- رجل يشكو قسوة قلبه، فقال له صلى الله عليه وسلم: أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ قال: نعم. قال: ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلين قلبك وتدرك حاجتك” وعن سهل بن سعد- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى، وفرَّج بينهما شيئاً) رواه البخاري.
قال الحافظ بن حجر قول ابن بطال – حق على كل من سمع هذا الحديث ان يعمل به ليكون رفيق النبى فى الجنة، ولا منزلة فى الآخرة أفضل من ذلك، مع العلم أنه لم تقتصر رفقة النبى على القريب فقط لليتيم بل نال هذا الشرف القريب وغير القريب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كافل اليتيم له أو لغيره وأنا وهو كهاتين في الجنة) رواه مسلم.
بل سيزداد تعلقك باليتيم حينما تسمع هذا الحديث الذى رواه أحمد، عن عمرو ابن مالك القشيرى، انه صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ ضَمَّ يَتِيمًا بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْهُ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ الْبَتَّةَ”، وأجمل من ذلك قول النبي: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وأحسبه قال: وكالقائم الذي لا يفتر وكالصائم لا يفطر) رواه البخاري ومسلم روى الطبرانى ورواته ثقات عن ابى هريرة- رضى الله عنه- انه صلى الله عليه وسلم قال: “وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لا يُعَذِّبُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ رَحِمَ الْيَتِيمَ، وَلانَ لَهُ فِي الْكَلامِ، وَرَحِمَ يُتْمَهُ وَضَعْفَهُ، وَلَمْ يَتَطَاوَلْ عَلَى جَارِهِ بِفَضْلِ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ”.
إننا منذ زمن بعيد غابت فيه تعاليم الإسلام السمحة نسمع ناقوس الخطر يدق بصوت يسمعه القاصى والدانى يحذرنا من هذا الخطر الداهم الناتج من إهمال اليتيم وتركه عُرضة للانحراف فيصبح مرضا يفتك بجسد الأمة بدلاً من أن يصبح عضوا نافعاً لنفسه ولمجتمعه ولن يكون ذلك إلا بالعناية به ورعايته والإحسان إليه، ولكننا نجعل أصابعنا فى آذاننا ونسير خلف أهوائنا، فهل يستفيق المجتمع ويسارع فى مد يد العون لهؤلاء ويعمل على احتضانه كما أمرت بذلك شريعتنا؟!