ربما لم يكن العالم والبشرية كافة في حاجة إلى حكمائها وعقلائها مثلما هي اليوم بعد أن أنهكتها الكراهية وشفّها التناحر وجرجرتها الصراعات إلى حافة الهاوية، ومن هنا نقف مليا أمام الجهود الكبيرة التي يقدمها منتدى أبو ظبي لتعزيز السلم منذ تأسيسه عام 2014 برئاسة الشيخ العلامة عبد الله بن بيّه رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي ورئيس المجلس العلمي الأعلى لجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، وهى جهود متنوعة تمتد إلى أطراف العالم فتزرع في كل بقعة بذرة سلام وتعايش بما تقدمه من مبادرات وأطروحات ربما لا يتسع المقام للحديث عنها بالتفصيل لكن على الأقل يمكننا الوقوف هنا أمام فعاليات الملتقى التاسع الذي انعقد منذ أيام قليلة بالعاصمة الإماراتية أبو ظبي تحت شعار” عولمة الحرب وعالمية السلام ..المقتضيات والشراكات” ليستكمل فيه زعماء وقادة ورجال دين ومفكرون ونشطاء سلام من جميع أرجاء الأرض ومن كل الطوائف والمذاهب والعرقيات ما بدأه الملتقى في دوراته السابقة وعبر نشاطاته جميعها، وليواصلون جميعا يدا بيد وكتفا بكتف الحفر العميق في تربة الحرب الصلبة طلبا لبئر السلام العميق وماء التسامح العذب، لقد استضافت دورة الملتقى هذا العام نخبة رائعة من حكماء ومفكري العالم وقياداته الروحية وعدد كبير من الباحثين في الأديان والفلسفة والإنسانيات بشكل عام من قارات العالم أجمع، يفتشون جميعا عن العيش السعيد للبشرية بعيدا عن نيران الحروب التي يزيدها اشتعالا زيت الكراهية والتعصب. وربما لم يجمع ضيوف الملتقى على أمر ولم يتفقوا على شيء بعينه مثلما اجتمعوا وأجمعوا بلا استثناء على الإيمان بحق الإنسان في العيش الآمن والمطمئن وبحقه الكامل في الاعتقاد والتعبد دون خوف أو ازدراء وبضرورة السعي بكل الوسائل الممكنة إلى دفع البشرية إلى خندق التعايش ومسلك التسامح وقبول الآخر كاتجاه إجباري للوصول لمحطة السعادة المرتجاة، فضلا عن ضرورة توفير الغذاء والدواء لكل إنسان في كل بقاع الأرض بلا تمييز، كان هذا هو اليقين الذي امتلأت به قلوب وضمائر الحضور والمشاركين والمتحدثين من كافة الخلفيات الدينية والثقافية وباختلاف الأيديولوجيات والجنسيات واللغات، نعم كان ذلك هو الثابت والمؤكد والمتفق عليه بلا خلاف أو اختلاف رغم الكثير من الأسئلة والتساؤلات التي طرحت عبر عدد من المحاضرات والجلسات والورش ودار أغلبها حول تلك الطرق والآليات التي تضمن للإنسان عيشا سعيدا منها ما طرح حول الحروب والصراعات وكيفية النجاة من ويلاتها، وبعضها حول الأمن الغذائي والصحي والبيئي وآلية توفيره كحق مكفول للإنسان ومنها ما دار حول دور القيادات الروحية والدينية في كبح جماح الصراعات والحروب والجريمة ومن تلك الأسئلة كذلك ما توجه به أصحابه من الباحثين والمشاركين إلى مدى قدرة الخصوصيات الثقافية على مواجهة اندياح العالم الرقمي وتداخل الثقافات وهيمنة شركات الإعلام الخاصة على سوق الأفكار و الخطابات الإعلانية وفي ظني البسيط أن طوفان الأسئلة والتساؤلات المطروحة على مدار الجلسات والورش لم تكن نوعا من الشك أو التيه بقدر ما كانت من وجهة أخرى وعبر إجاباتها الحتمية ترسيخا لذلك اليقين الثابت عند الجميع بحق الإنسان في الحياة الآمنة السعيدة، تلك الأسئلة والتساؤلات بدأ بطرحها الشيخ العلامة عبد الله بن بيّه في الجلسة الافتتاحية عندما تضمنت كلمته تساؤلات ألقاها على قلوب الحاضرين قبل مسامعهم منها: كيفية تجنب خطر الحروب والصراعات المسلحة ؟ كما سأل كيف يمكن لسفينة البشرية أن تتفادى جبل الجليد الذي قد يؤدي إلى غرقها تماما مثل (تيتانيك)؟ كما تساءل العلامة عن حجم الدور الذي يمكن أن تسهم به القيادات الدينية والروحية في مواجهة أزمات العالم وتحدياته وصراعاته وعن سبل توفير الغذاء والدواء للدول النامية وفقراء العالم في كل مكان، لتتوالى الأسئلة والتساؤلات في كلمات معظم المشاركين في معظم المحاضرات والجلسات لتؤكد على ما ذكرناه سابقا من إيمان الحضور العميق بحق الإنسان في الأمن والسلام لذا فإن طرح تلك الأسئلة لم يكن إلا محاولات جادة ومؤمنة من المتسائلين لتعبيد الطرق التي تصل بالبشرية إلى الهدف المنشود.