ترسيخ القيم الدينية والوطنية.. مفتاح استقرار المجتمعات
معارض للمسابقات القرآنية والمقتنيات النبوية والتضامنية.. بجانب الفكرية والفنية
رسالة المغرب: مصطفى ياسين
جاء الاحتفال بالمولد النبوى الشريف بردا وسلاما على أشقائنا المغاربة، فأعادهم إلى عهدهم وطبيعتهم من الإقبال على الحياة بكل همة وحيوية، متناسين أحزانهم التى خلفها الزلزال المدمر الذي وقع أوائل سبتمبر، محتسبين ضحاياه شهداء عند ربهم يرزقون، والمتضررين إنما قدموا زكاة أموالهم وصحتهم وأمنهم الذى ينعمون به.
حيث انطلقت فعاليات الدورة الثامنة عشر للملتقى العالمي للتصوف تحت شعار “اﻟﺘﺼﻮف واﻟﻘﻴﻢ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واﻟﻮﻃﻨﻴﺔ من أجل تأسيس مواطنة شاملة” ، مساء السبت 8 ربيع الأول وتستمر حتى 13 منه، الموافق 23 إلى 28 سبتمبر، تحت الرعاية السامية لجلالة الملك محمد السادس، بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي، والذى تنظمه الطريقة القادرية البودشيشية ومشيختها، برئاسة العارف بالله مولاي جمال الدين القادري بودشيش، رضي الله عنه، ومؤسسة الملتقى، بشراكة مع المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم، ومؤسسة الجمال.
أجمع المشاركون على تأكيد دور التصوف فى استقرار المجتمعات وتحقيق القواسم المشتركة من خلال ترسيخ القيم الدينية والوطنية وتطبيقها واقعاً معاشا.
فبعد تلاوة آيات بينات من القرآن الكريم، وسماع النشيد الوطني، وسط حضور رسمى ودولى كبير، تمت قراءة الفاتحة ترحما على شهداء الزلزال الذي ضرب منطقة الحوز، وإعصار ليبيا، مع الدعاء للجرحى بالشفاء التام.
افتتح د. منير القادري، رئيس مؤسسة الملتقى، الفعاليات معبراً عن الشكر والامتنان لجلالة الملك محمد السادس، الذي غمر بعطفه اﻷبوي ضحايا فاجعة الزلزال، ورعايته للمصابين وأسرهم وكذا الأيتام حيث أصدر توجيهاته السامية باعتبارهم من مكفولي اﻷمة، وتفقده الميداني للحالة الصحية للجرحى، وسلط “د. القادري” الضوء على مسارعة المغاربة ،كما هي عادتهم دائما، لمواساة بعضهم البعض والتعاضد والتراحم فيما بينهم ومَدَّ يد العون والمساعدة، انطلاقا من قيم التضامن والتآزر المتجذرة في مجتمعنا المغربي ˓والمستمدة من مبادئ دينا الحنيف وثقافتنا المغربية الاصيلة.
اﻟﻘﻴﻢ الأخلاقية
أوضح د. القادرى، أن القيم الأخلاقية ﻫﻲ اﻟتي ﺗﻮﺟﻪ ﺳﻠﻮﻛﻴﺎت اﻷﻓﺮاد إﱃ ﻣﺎ ﻳﺘﻨﺎﺳﺐ ﻣﻊ ﻣﺎ ﺗﻄﻠﺒﻪ اﳉﻤﺎﻋﺔ وﻣﺎ ﺗﺮﻓﻀﻪ ﻣﻦ أﺣﻜﺎم ﺗﺘﻤﺎﻫﻰ ﻣﻊ اﻟﻀﻮاﺑﻂ اﻟﺸﺮﻋﻴﺔ واﻟﻌﺮﻓﻴﺔ واﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ، وأنه لا وﻃﻨﻴﺔ ﻋﻠﻰ اﳊﻘﻴﻘﺔ إﻻ بهذه اﻟﻘﻴﻢ، ﻓﺎلهوية اﻟﻮﻃﻨﻴﺔ ﻻ ﺗﻜﺘﻤﻞ إﻻ ﻣﻦ ﺧﻼل الهوية اﻟﻘﻴﻤﻴﺔ والأخلاقية، ﻷن اﻟﻮﻃﻨﻴﺔ اﳊﻘﺔ ﻻ ﺗﺘﺄﺳﺲ ﻋﻠﻰ ﳎﺮد اﻻﻟﺘﺰام اﻟﻘﺎﻧﻮﱐ فقط، ﺑﻞ ﻻﺑﺪ أن ﺗﺴﺘﻨﺪ وتُعضَّد بالمكون اﻟﻘﻴﻤﻲ.
وانتقد تهميش الحضارة المعاصرة للجوانب الروحیة والقیمیة للإنسان، مما أدى إلى دخول مجتمعاتنا في أنفاق مظلمة، رغم التقدّم الحاصل ماديا وتقنيا، وتجلى ذلك في الأزمات الأخلاقية والنفسیة الخانقة التي یتخبط فیها إنسان اليوم، والفراغ الروحي المهول الذي یعانیه، ومظاهر الانحراف السلوكي، بالإضافة إلى الاستنزاف المتزاید للثروات، وما رافقه من اختلال خطیر في النظام البیئي العالمي، وغیر ذلك من الجوانب السلبية لهذه التنمیة المادية الصرفة.
وبين د. القادرى، أن الإسلام يتميز بنزعته الإنسانية العالمية المنفتحة التي لا فرق فيها بين مسلم وآخر أو غير مسلم، وأنها تمثل حقيقة جوهرية في الممارسة الصوفية ومنهجها التربوي والسلوكي المبني على خطاب الرحمة والمحبة ونفع الخلق، موضحا أن هذه النزعة الإنسانية مستنبطة من التصور القرآني للحقيقة الإنسانية مستدلا بآيات من القرآن الكريم.
وأكد أن اﳌﻐﺮب استطاع أن ﻳﻘﺪم ﳕﻮذﺟﺎ ﻋﻤﻠﻴﺎ ﻟﻠﻘﻴﻢ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واﻟﻮﻃﻨﻴﺔ ﰲ ﺑﻌﺪﻫﺎ اﻟﻜﻮﱐ العالمي، ﺣﻴﺚ ﺗﻌﺎﻳﺸﺖ ﻓﻴﻪ ﻛﻞ اﻷﻃﻴﺎف اﻟﻌﺮﻗﻴﺔ واﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﺑﺘﻮادٍّ واﻧﺴﺠﺎم ﲢﺖ راﻳﺔ ﻫﺬا اﻟﻮﻃﻦ، وأنه إﱃ اﻟﻴﻮم ﻳﻌﺪ ﳕﻮذﺟﺎ ﰲ ذﻟﻚ ﲢﺖ اﻟﻘﻴﺎدة اﻟﺮﺷﻴﺪة لجلالة اﳌﻠﻚ ﳏﻤﺪ اﻟﺴﺎدس، الذي ﻣﺎ ﻓﺘﺊ يحمل ﻟﻮاء اﻟﻌﻤﻞ اﳉﺎد واﻹﺻﻼح وﻳﺮﻓﻊ ﺷﻌﺎر اﻟﻴﺪ اﳌﻤﺪودة ﻟﻠﺨﲑ واﻟﺘﺂﺧﻲ واﻟﺘﻌﺎون المثمر.
ترسيخ القيم
وأشار د. معاذ البودشيشى، رئيس مؤسسة الجمال، إلى أن الباحثين في هذا الملتقى العالمي يتناولون عدة محاور كمداخل نظرية ﻋﻦ اﻟﻘﻴﻢ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واﻟﻮﻃﻨﻴﺔ وأﺻﻮلها اﻟﺸﺮﻋﻴﺔ وأﺑﻌﺎدﻫﺎ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﺘﻀﺎﻣﻨﻴﺔ والجمالية واﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ واﻟﻔﻨﻴﺔ وعلاقتها بإﺷﺎﻋﺔ روح اﻟﺘﺴﺎﻣﺢ والحوار بين اﻷديان واﻷﺑﻌﺎد اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ للمواطنة ودور التصوف ورﺟﺎﻻته ﰲ ﺗﺮﺳﻴﺦ هذه اﻟﻘﻴﻢ.
مداخلات ثمينة
وقد شهدت جلسات الملتقى، بإشراف د. عبدالرحيم السنى، مداخلات للعلماء والمفكرين، فأكد د. عبدالفتاح عبدالغني العواري ،العميد الأسبق لكلية أصول الدين بجامعة اﻷزهر، أن القيم الدينية والوطنية متأصلة شرعيا، وتتحقق بالاستجابة لله ورسوله وهى الحياة الحقيقية التي يعيشها الأفراد في وطن واحد يجمعهم، مشيراً إلى قيم الأخوة والكرامة الإنسانية ،السلام، صيانة النفس، المساواة ،الوفاء بالعهود والمواثيق ،التسامح، مؤكداً على دور التصوف فى استقرار المجتمعات وتحقيق القواسم المشتركة من خلال ترسيخ القيم الدينية والوطنية وتطبيقها واقعاً معاشا.
التصوف الأمريكى
واستعرض الشيخ بلال الحلاق، اﻷمين العام لدار الفتوى –كاليفورنيا اﻷمريكية، وجود التصوف فى امريكا، مؤكداً ضرورة دعمه وتشجيعه باعتباره القوة الناعمة والقادرة على النفاذ إلى القلوب الحائرة فى الغرب. وأن الصوفية علم وعمل ونفع للناس بالخير، وشدد على الحفاظ على شعار أهل المغرب عقد الأشعري وفقه المالكي وطريق الجنيد السالك.
التعاون والتضامن
وأكد د. أرشد محمد، مفتى جنوب أفريقيا، إن الزوايا الصوفية في كل مكان في العالم تتفق على أهمية التعاون والتضامن بين الناس وتقوم على الدعوة إلى الإحسان بين الناس وإلى المخلوقات جميعا، حيث يعتقدون أنهما أساس بناء مجتمع قوي ومتماسك. ومن هذا المنطلق، فإنهم يدعو إلى العمل المشترك من أجل تحقيق الصالح العام.
الأمن الشامل
وأوضح د. محمد عمر باعلوي، عميد برنامج الدراسات العليا بكلية أصول الفقه بجامعة الأم العالمية بالصومال، أن القيم تعد أهم الأمور التي يعيش بها الإنسان في حياته، فهي ما تميزه عن غيره من الكائنات، لما فيها من رقي ورفعة، إذ أن جميع القيم تكون ذا سمو ومقام رفيع، والقيم في المعنى اللغوي، هي جميع الفضائل التي يقوم على أساسها المجتمع وتتأسس على نهجها الحيوات الاجتماعية والأسرية والنفسية الخاصة، ومما لا شك فيه أن تشكيل القيم الوطنية في المجتمع الصومالي يسهم في تقدم البلاد واستقرارها علما بأننا في حاجة ماسة إلى تفعيل قيم الولاء والانتماء، والأمن الشامل، وتعزيز قيم الإيجابية السائدة مثل: قيم التسامح، والكرامة الأصالة والحداثة، وتوثيق العلاقة بين الحاكم والرعية، وقيم الحرية والعدالة، والتماسك الاجتماعي، والتضحية والمروءة.
كسب الزوايا
واجاب د. عبدالمغيث بصير، رئيس المجلس العلمي المحلى بإقليم برشيد المغربى، عن التساؤل: كيف تكسب الزوايا التحقق بالقيم الدينية والوطنية؟ مستعرضاً إسهام الطريقة البصيرية.
كما استعرض د. إدريس الفاسى، نائب رئيس جامعة القرويين بفاس، إسهام الطريقة الفاسية فى ترسيخ القيم الدينية والوطنية. وكذا أستعرض د. أحمد البوكارى، متخصص فى التصوف، إسهام الطريقة الشرقاوية ومرتكزات الهوية المغربية وآفاقها. وعرض د. حكيم فضيل الإدريسي، رئيس المجلس العلمي للدار البيضاء سابقا، للأساس الاخلاقى للحضور المحمدى فى الوجدان الدينى. وكشف د. عبدالوهاب الفيلالى، جامعة محمد بن عبدالله بفاس، الثوابت القيمية فى الأدب الصوفى واسهاماتها فى المواطنة الشاملة.
المواطنة التزام
أوضحت د. أسماء المصمودى، عضو الرابطة المحمدية للعلماء، باحثة متخصصة في الفكر والأدب الصوفي، مفهوم الوطنية وكيف أنها شعور انتمائي عاطفي وروحي، وان المواطنة هي التزام بالحياة القانونية والاجتماعية، والثانية لا تكون الا إذا استوينا الأولى التي تحتضن الثانية تحت لواء المحبة، وقدمت بعض نماذج العمل الصوفي الذي يجسد أبعاد الوطنية وتمثلات المواطنة، مستدعية مجموعة من العلماء الصوفية المغاربة خاتمة ذلك بالنموذج القادري البودشيشي.
وأبان الشيخ محيى أدينبى، سلطان الخليفة العام للقادرية بولاية لاجوس النيجيرية، دور التصوف فى ترسيخ القيم الدينية والوطنية.
المكون اﻟﻘﻴﻤﻲ
يذكر أن هذه الدورة، وعلى غرار الدورات السابقة، تشهد مشاركة علماء ومفكرين وباحثين من مختلف القارات˓ والذين يتدارسون في هذه النسخة موضوع القيم الدينية والوطنية في علاقتها بالمواطنة بمفهومها الشامل، انطلاقا من كون الهوية اﻟﻮﻃﻨﻴﺔ ﻻ ﺗﻜﺘﻤﻞ إﻻ ﻣﻦ ﺧﻼل الهوية اﻟﻘﻴﻤﻴﺔ والأخلاقية، ﻷن اﻟﻮﻃﻨﻴﺔ اﳊﻘﺔ ﻻ ﺗﺘﺄﺳﺲ ﻋﻠﻰ ﳎﺮد اﻻﻟﺘﺰام اﻟﻘﺎﻧﻮﱐ فقط، ﺑﻞ ﻻﺑﺪ أن ﺗﺴﺘﻨﺪ وتُعضَّد بالمكون اﻟﻘﻴﻤﻲ.
ويهدف الملتقى لتسليط الضوء على دور اﻟﺘﺼﻮف ﰲ ترسيخ القيم الدينية والوطنية وﺗﻌﻤﻴﻘها واﻹﺳﻬﺎم ﰲ اﻟﺒﻨﺎء ﺟﻨﺒﺎ إﱃ ﺟﻨﺐ ﻣﻊ باﻗﻲ اﻷﺷﻜﺎل التربوية اﻟﻔﺎﻋﻠﺔ واﻟﻨﺎﺟﻌﺔ، باعتباره كعلم للتزكية واﻟﱰﺑﻴﺔ اﻟﺮوﺣﻴﺔ ﻳﻜﺘﻨﺰ ﻣﻘﻮﻣﺎت عديدة ﳝﻜﻦ اﺳﺘﺜﻤﺎرﻫﺎ ﰲ ورش ﺑﻨﺎء اﻟﻘﻴﻢ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واﻟﻮﻃﻨﻴﺔ.
كما تسعى هذه التظاهرة العلمية لإبراز التجربة المغربية، حيث استطاع المغرب أن ﻳﻘﺪم نموذﺟﺎ ﻋﻤﻠﻴﺎ ﻟﻠﻘﻴﻢ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واﻟﻮﻃﻨﻴﺔ ﰲ ﺑﻌﺪﻫﺎ اﻟﻜﻮﱐ العالمي، وﺗﻌﺎﻳﺸﺖ ﻓﻴﻪ ﻛﻞ اﻷﻃﻴﺎف اﻟﻌﺮﻗﻴﺔ واﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﺑﺘﻮادٍّ واﻧﺴﺠﺎم تحت راﻳﺔ اﻟﻮﻃﻦ، وأنه إلى اﻟﻴﻮم مايزال ﻳﻌﺪ ﳕﻮذﺟا رائدا تحت اﻟﻘﻴﺎدة اﻟﺮﺷﻴﺪة لجلالة الملك محمد اﻟﺴﺎدس الذي ﻣﺎ ﻓﺘﺊ يحمل ﻟﻮاء اﻟﻌﻤﻞ الجاد واﻹﺻﻼح وﻳﺮﻓﻊ ﺷﻌﺎر اﻟﻴﺪ الممدودة ﻟﻠﺨﲑ واﻟﺘﺂﺧﻲ واﻟﺘﻌﺎون المثمر.
كما ستعرف الدورة إقامة عدد من الأنشطة الموازية، من بينها : ندوات عن البعد الافريقي للتصوف ومنتدى شباب الطريقة ومسابقة في حفظ وتجويد القرآن الكريم واخرى في النص الشعري والنص الصوفي، إضافة الى معرض للمقتنيات النبوية يقدمه إحراز أحمد من الهند، وآخر للكتاب وفن الخط لمحمد بوخانة.
يُشار الى أن جلسات هذه الدورة وجميع أنشطتها تُبث على المنصات الرسمية الرقمية لمؤسسة الملتقى.