في عصر النبوة كان الصحابة – رضوان الله عليهم – يرجعون إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) للفصل في أي خصومة تنشأ بينهم ، فيحكم بينهم بالحكم الشرعي المبين ،وذلك لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) قد وَكله الله عز وجل بالحكم والفصل بين العباد نزولًا على القول الفصل في كتاب الله ؛من قوله سبحانه تعالى { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا{( النساء: آية 65) ،وهذه الآية الكريمة تدل على أن الله عز وجل قد وضع حبيبه (صلى الله عليه وسلم )على ولاية القضاء في الأرض ،وهو سبحانه الذي صنعه على عينه ،وبعثه للناس كافة ليحقق العدل بينهم ،وتطبيق حكم الشرع المبين .وقد تجلّى ذلك واضحا في موقف السيدة هند بنت عتبة عندما وقفت بين يديّ المصطفى رأس العدل الإنساني في الأرض ؛تشتكي من زوجها أبي سفيان بأنه رجل شحيح ولم ينفق عليها هي وولدها ،فرخص لها أن تأخذ من مال زوجها بدون علمه ما يكفيها هي وولدها بالمعروف ، وذلك فيما ترويه السيدة عائشة أم المؤمنين (رضي الله تعالى عنها ) عن رسول الله ( صلّى الله عليه وسلّم ) ،قالت : ” جاءت هندٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّم، فقالت: يا رسولَ اللَّهِ إنَّ أبا سفيانَ رجلٌ شحيحٌ ،لا يعطيني ما يَكفيني وولَدي، إلَّا ما أخذتُ من مالِهِ، وَهوَ لا يعلَمُ، فقال: خُذي ما يَكفيكِ وولدَكِ بالمعروفِ” ( صححه البخاري) ،وهذا يدل على فطنة وحكمة وعدالة رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم ) في حكمه وتطبيقه شرع الله ،فقد رخّص لها أن تأخذ من مال زوجها لحاجتها وولدها بدون علمه بالمعروف ،ذلك أنّ الله قد أوجب على الزوج نفقة كلٍّ من زوجته وأولاده ،لما جاء في قوله تعالى “الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ” ( النساء: آية 34) وتلك الآية تدل على أن الرجل فُضِّلَ على المرأة بالإنفاق عليها، وهو ما أخذ به المشرع المصري عندما قام بوضع قانون الأحوال الشخصية ١٠٠ لسنة ١٩٨٥م في المادة الثانية التي تنص على “تجب النفقة للزوجة على زوجها من تاريخ العقد الصحيح إذا سلمت نفسها إليه ولو حكما حتى لو كانت موسرة أو مختلفة معه في الدين” .وهو ما أرسى قواعده وشرّعه رأس العدل الإنساني سيدنا محمد ( صلّى الله عليه وسلم) منذ ما يقرب من خمسة عشر قرنًا من الزمان ، وإلى أن يشاء الله .
ولم يكن خبر هند بنت عتبة هو الأوحد في دولة العدل المحمدية ،فكان الرسول (صلى الله عليه وسلم ) حفيًّا بالعدل ،حريصًا على إقامة حدود الله ،فرأيناه لا يفرق بين القوي والضعيف ،والقريب والبعيد ،في تطبيق الحق و العدل وذلك عندما اهتمت قريش بأمر المرأة التي سرقت في عهد رسول الله في غزوة الفتح ( فتح مكة ) في العام الثامن من الهجرة النبوية وفزع قومها إلى أسامة بن زيد ليشفع لها عند رأس العدل في الأرض ؛ سيدنا محمد ، وكانت المفاجأة لزيد والأمة بعد ذلك ؛ من غضبة الرسول (صلّى الله عليه وسلّم ) للحق / العدل /، ليقيم الرسول حدّ الله أمام الجميع دون تعطيل أو محاباة ، أو تفرقة حتى لو كانت ( السيدة فاطمة بنت رسول الله ) ،وهو ما نقله الحديث النبوي الشريف الذي رواه عروة بن الزبير ” أنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ في عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في غَزْوَةِ الفَتْحِ، فَفَزِعَ قَوْمُها إلى أُسامَةَ بنِ زَيْدٍ يَسْتَشْفِعُونَهُ، قالَ عُرْوَةُ: فَلَمَّا كَلَّمَهُ أُسامَةُ فيها، تَلَوَّنَ وجْهُ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: أتُكَلِّمُنِي في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ؟! قالَ أُسامَةُ: اسْتَغْفِرْ لي يا رَسولَ اللَّهِ، فَلَمَّا كانَ العَشِيُّ قامَ رَسولُ اللَّهِ خَطِيبًا، فأثْنَى علَى اللَّهِ بما هو أهْلُهُ، ثُمَّ قالَ: أمَّا بَعْدُ؛ فإنَّما أهْلَكَ النَّاسَ قَبْلَكُمْ: أنَّهُمْ كانُوا إذا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقامُوا عليه الحَدَّ، والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لو أنَّ فاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَها. ثُمَّ أمَرَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتِلْكَ المَرْأَةِ، فَقُطِعَتْ يَدُها، فَحَسُنَتْ تَوْبَتُها بَعْدَ ذلكَ وتَزَوَّجَتْ …” . إنه لإسْلامُ دِينُ العَدلِ والقِسطِ، وعَدمِ المُحاباةِ لأحَدٍ على حِسابِ أحَدٍ، والذي رفع بنيانه في هذا الكون رأس العدل سيدنا محمد (صلّى الله عليه وسلّم ) الذي سيظل شخصية باقية، خالدة ، معطاءً عبر الزمان والمكان ، نبعاً متجددا بعطاءات العبقرية الإنسانية في أسمى معاني العدل .