مرَّت ذكرى عباس العقاد منذ عدة أيام مرور الكرام، لم يعره أحد اهتماماً لا الدولة ولا الإعلام ولا الأزهر ولا الحركة الإسلامية ولا القنوات الفضائية! رغم عبقريته وجهل أكثر الشباب به فكل ما يعرفه أغلب الشباب في مصر عن عباس العقاد أنه شارع في مدينة نصر!
العقاد كاتب الشرق الأول وأعظم من أمسك بالقلم في القرن العشرين، وهو الكاتب الوحيد الذي لم يخضع لملك ولا لحاكم، ولم يجامل مسؤولاً في حياته في الوقت الذي مدح فيه الموتى والفقراء والبسطاء لأنه آمن بعبقريتهم.
فمن أهم معارك العقاد السياسية معركته مع القصر الملكي والملك فؤاد وكان يومها نائباً في البرلمان، وأراد الملك حذف عبارتين من الدستور المصري وهما “الأمة هي مصدر السلطات” والأخرى “الوزارة مسؤولة أمام البرلمان” فإذا به يرفع صوته تحت قبة البرلمان وعلي رءوس الأشهاد: “أن الأمة علي استعداد أن تسحق أكبر رأس في البلاد يخون الدستور ولا يصونه”، فإذا بهذه الكلمات تودعه السجن بتهمة العيب في الذات الملكية، ويدافع عنه في المحكمة المحامي المسيحي الشاب مكرم عبيد بمرافعة رائعة.
كتب ذكرياته في السجون ومن يقرأها يدرك أن نفس ما جرى له في عصر الملك فؤاد جرى في كل عصور مصر، سواء فاروق أو ناصر أو السادات أو غيره، وذلك لأن نفس العقلية التي تدير السجون وقوانينها لم تتغير إلا في لحظات نادرة في تاريخ مصر، وكأنك ترى الزمان يعيد نفسه؟!
كتب العقاد قصيدة رائعة في السجن يتحدث فيها عن تجربته بدأها باستهلال رائع:
وكنت جنين السجن تسعة أشهر *** فها أنذا في ساحة الخلد أولد
وختمها ببيت رائع قاله بعد خروجه من السجن:
وعداتي وصحبي لا اختلاف عليهم *** سيعهدني كلُ كما كان يعهد
العقاد أكثر من خاض معارك فكرية وأدبية وسياسية طاحنة فصار له أصدقاء كثر وخصوم أكثر، وتلاميذه في كل مجال وخصومه كذلك، وذلك لأنه كان لا يجامل أحداً، وكان كالسيف في حدته وشدته وتمسكه برأيه واعتداده بذاته وفكره.
لم يجامل الملك فؤاد ولا فاروق ولا عبدالناصر وتصدى لهتلر وفكرة النازية في وقت مجد هتلر وعنفوانه ويوم أن كان الألمان وروميل في “العلمين” وهدده هتلر بمشنقة تليق بطوله، فذهب للسودان حتي انتهت الحرب العالمية الثانية.
تصدى للشيوعية والشيوعيين في وقت عزهم وصولتهم ورفعة الاتحاد السوفيتي، وتصدى للإلحاد والملحدين وقد كانوا كثرة في عهده.
وتصدى للإخوان بعد قتلهم لصديق عمره النقراشي باشا وكانوا وقتها ملء السمع والبصر وكان وحده فلم يخف من بأسهم وصولتهم.
حتي أن بعض تلاميذه غضبوا منه لأنه لم يجاملهم أو يعطيهم فوق حقهم، وممن أغضبهم العقاد الشيخ/ سيد قطب حينما رفض أن يكتب له مقدمة لأحد كتبه علي غير عادته مع تلاميذه لأنه رأى أن طريقته في منهج التناول تبتعد عن الصواب وأنها قد تفهم خطأ في المستقبل أو توضع في غير موضعها، وصدقت نبوءة العقاد في تلميذه النجيب سيد قطب الذي امتلك قلماً ساحراً ولكنه لم ينضبط في مسائل العقيدة في كتاباته فساقها بأسلوب أدبى فضفاض يحبذ العزلة عن المجتمع والانفصال عنه ويدعو ضمن ما يدعو إلي تكفير الحكام والمجتمع والبرلمان.
العقاد كره أن ينضوى تحت لواء أحد، ففي الوقت الذى انضوى فيه عبدالناصر ومعظم أعضاء مجلس الثورة إلي الإخوان رفض هو لأنه يأبى أن يكون أداة في يد أحد أو تابعاً لأحد.
العقاد الذي لم يمدح الحكام مدح الموتى لأنهم عباقرة، ومنهم: أبو بكر الصديق، عمر بن الخطاب إمام العدل السياسي والاجتماعي، خالد بن الوليد، علي بن أبي طالب، ذي النورين، الحسين سيد الشهداء، سانت تريزا صانعة الخير، غاندى الحكيم، وسعد زغلول.
لقد أبصر العقاد بعقله عمق الهجمة العلمانية والشيوعية الشرسة التي تريد إهالة التراب علي كل نماذج التاريخ الإسلامي العظيمة، فضلاً عن الأنبياء، وإحلال نماذج مثل لينين وماركس وغيرهما بدلاً منهم، فشمَّر عن ساعد الجد “فاستنطق الماضي واستنزل هذه الشخصيات من عصورها وكأن عمر بن الخطاب موجود بيننا يحل مشاكل عصرنا؟!” هكذا عبر المرحوم رجاء النقاش عن طريقته في نصرة الحق والحقيقة، وإنصاف العباقرة، فالعقاد أول وأعظم من كتب عن المسيح “عليه السلام” وكل الذين كتبوا عنه عيال عليه.
وكان العقاد لا يكتب عن عبقرى حتي يعشقه ويذوب ذوباناً في شخصيته ومواقفه.
كان أول من هزم النازية والشيوعية، وتنبأ بانهيار الاتحاد السوفيتي، ومن قبله هتلر في أوقات نصرهم وغلبتهم.
عبَّر عن مسيرة حياته الصعبة فقال: “لي أصدقاء وأعداء بحمد الله، لقد حاربت الطغيان والفوضى، ومذاهب الهدم والبغضاء، والتبشير، وحاربت التقليد الأعمى والدجل المريب باسم الدين، والجمود والرجعية، والأحزاب والملوك، وهتلر ونابليون والمستعمرين، والصهيونية، وأعداء الأدب القديم، لقد حاربت هؤلاء جميعاً، فالتقي علي محاربتي، أناس من هؤلاء وهؤلاء “صهيوني إلي جوار نازي أو فوضوي إلي جوار رجعي إلي ملحد، إلي جانب حامل اللحية المزيفة باسم الدين إلي جانب الماركسي من اليسار والمبشر من اليمين، فحمداً لله أن أرسل عليّ هذه السيوف المشرعة من كل جانب لكنه أسبغ عليّ الدروع التي تتكسر عليها تلك السيوف، فقال رب الجنود: “أنت قدهم وقدود”.
كان العقاد لا يهاب الموت ويردد “إذا فاجأنى الموت في وقت من الأوقات، فإنني أصافحه ولا أخافه، بقدر ما أخاف المرض، فالمرض ألم مذل لا يحتمل، لكن الموت ينهي كل شئ” سلام علي العقاد في العالمين الذي أنصف الأنبياء وأعلى ذكرهم وأنصف نماذج الصحابة المشرفة وأعلى ذكر الحكماء.