حوار- محمد الساعاتى:
لم يكن والد الطفل المعاق رضا عبد السلام يدري أنه سيصبح محط أنظار العالم أجمع بما يحمله من طاقات متوهِّجة لم تتوفر لغيره سواء على مستوى المُعاقين أو الأصِحَّاء.
شاءت إرادة الله تعالي أن يولد بدون ذراعين مما أصاب أفراد أسرته بذعر شديد، خوفا على ضياع مستقبله، وبالفعل تفاقمت الأمور وازدادت تعقيدا عندما كبر الطفل المعاق، الذي لا يمتلك إلا 15سم في كل ذراع، وحين ذهب به والده يُلحقه بالمرحلة الابتدائية بمدرسة قرية كفر الشيخ إبراهيم، مركز قويسنا، بمحافظة المنوفية، فوجئ الأب بإدارة المدرسة ترفض قبول ولده بالمدرسة، لتضيع سنة دراسية على ولده الذي لا حول له ولا قوة، ليعود الأب إلى بيته حاملا ولده المبارك الذي درَّبه على الكتابة (بقدمه) بإجادة غير معهودة.
ومع بداية العام الدراسى الجديد يعاود الأب الكَرَّة، فيصطحب ولده إلى المدرسة، التى مازالت على موقفها من عدم قبول التلميذ المعاق، فيترك الأب مدير المدرسة مسرعا عازما الذهاب إلى وكيل وزارة التربية والتعليم بالمنوفية، وبالفعل ينجح فى مقابلته، ويقول له: هذا هو ولدى الذى أراد الله له أن يولد على هذه الهيئة، وهو الآن يستطيع أن يكتب بقدمه بإجادة فائقة، فأرجو منك أن تختبره بنفسك.
وأكمل الأب: ولك أن تعلم يا سيدى، أنه فى حالة عدم قبوله فسوف أذهب بولدى إلى رئيس الجمهورية، جمال عبدالناصر، فإذا لم يقبله هو الآخر، فسأقوم بضربه بالنار في ميدان التحرير.
تقدير المسئول
فسمح وكيل الوزارة للابن أن يكتب، فكتب بقدمه، فدُهش وكيل الوزارة من روعة الخط، ووافق على الفور بانضمامه لمدرسة كفر الشيخ إبراهيم الابتدائية، وسط فرحة الأب الذي سجد لربه شاكرا نعمه.
وبعد مرور عامين من الدراسة فوجئ ولى الأمر باستدعاء عاجل من المدرسة، حيث طالبوه بضرورة أن تتحول طريقة ولده في الكتابة بدلا من استخدام قدمه، فتدرَّب الابن على الكتابة بفمه وسبحان الله!! تسند إليه المدرسة عمل اللوحات الشَرَفية، من شدة جمال وروعة خطه، لدرجة جعلت المدرسة تختاره كأفضل خطَّاط بها رغم أنه يكتب بفمه!
باب الأمل
من هنا يفتح باب الأمل أمام هذه الظاهرة التي تسجّل سبقا فيما بعد، حيث يعد أول مذيع هواء (معاق) على مستوى العالم، وينجح فى محاورة نجوم المجتمع والمشاهير، محققا النجاحات تلو النجاحات، ليصل إلى قمة الشهرة والمجد الإذاعى حين قام بتغطية مناسك الحج والعمرة، على الهواء مباشرة من على جبل عرفات والحرمين الشريفين، كما شارك في مسابقة القرآن الكريم من دبى بالإمارات العربية المتحدة، كما نجح فى فرض بصمة صوته العذب لدى كل متابعى إذاعة القرآن الكريم المصرية، من خلال برامجه الناجحة، والأمسيات الدينية ونقل شعائر صلاة الفجر والجمعة على الهواء مباشرة.
“عقيدتي” التقته فى ماسبيرو، حيث مبنى الإذاعة والتليفزيون، وأجرينا معه الحوار التالى:
نظرة المجتمع
ما هى (سيرة ومسيرة) رضا عبدالسلام وأهم مصادر السعادة في حياته؟
** بحمد الله تعالى أعتبر نفسي من المحظوظين، بما أنعم الله تعالى علىَّ به من عزيمة واجهت بها نظرة المجتمع القاسية للمعاق، حيث خاض والدى- رحمة الله- معى التجربة القاسية التى أشرتم لها في مقدمتكم فى التمهيد لإجراء الحوار، وعقب حصولى على الشهادة الابتدائية بسلام، تفوّقت في المرحلة الإعدادية ومارست لعبة كُرة القدم حيث كنتُ لاعبا موهوبا، بإشادة كل من شاهدنى، كما تألقت في لعبة البنج بونج وترشَّحت لتمثيل مصر فى دورة دولية خارج الحدود، وفى الثانوية العامة حصلت على المركز الثانى على المحافظة بينما حصل على المركز الأول الكاتب إبراهيم عيسى، والتحقت بكلية الحقوق وحصلت على الليسانس بتقدير عام جيد، وصرفت نظر عن فكرة تعيينى كمعيد بالكلية عقب التخرّج حيث قلت فى نفسي: لعله خيرا، وبدأت بحمد الله أحلم بأن أكون مذيعا بإذاعة القرآن وتقدمت للاختبار، وللأسف لم أجد من يحنو علىَّ.
أرسلني الأستاذ الفاضل عبدالوهاب مطاوع للأستاذ فهمي عمر، الذى كان رئيسا للإذاعة فى تلك الفترة، والذى أغضبنى وقتها حين سألني: هتشتغل إيه فى الإذاعة؟! فقلت له بانفعال: أشتغل مذيع إن شاء الله.
وخرجت من مكتبه مُحبطا، فأرسل إلى رئيس إذاعة وسط الدلتا بطنطا، التى عملت بها مذيعا لمدة عامين، وحين علمت بأن الإذاعة الأم قامت بالإعلان عن حاجتها لمذيعين جُدد سارعت وتقدمت للاختبار، وشاءت إرادة الله تعالى أن أخضع للاختبار أمام الرائد الإذاعى الكبير الأستاذ حلمى البُلُك، الذى حرصت على أن أوصل إليه كل إمكاناتى أثناء الاختبار، وبعدما أجبت على جميع أسئلة الاختبار كاملة تعمّدت أن أقوم بخلع الجاكيت وارتديته أمامه، ثم قمت بفتح باب مكتبه، وكان عملاقا يحتاج إلى إنسان قوى وأغلقته ثانية، وأمسكت القلم بالجزء المتبقّى من يدى وطوله 15سم، وقلت له: إذا فرضنا أن هذا القلم “مايك” فاسمح لى أن أحاور سيادتك؟!
وهنا اقتنع بى وأصدر قراره الذى أثلج صدرى: يصلح لأن يكون مذيع هواء بإذاعة القرآن الكريم.
وأصبحت مذيعا وقدَّمت برنامجى (سيرة ومسيرة) الذى ظللت أقدمه للإذاعة طيلة خمسة عشر عاما، وتناولت فيه سيرة ومسيرة جميع الأعلام فى كل المجالات.
مصدر سعادتى
أما عن أهم مصادر السعادة فى حياتى، فأقول: إنها كثيرة ومتعددة أذكر منها ما يحضرنى فى الذاكرة الآن، ما شرَّفنى الله بأن جعلنى مسلما، ثم أكرمنى بحفظ القرآن الكريم الذى ساهم بقوة فى تكوين شخصيتى طوال رحلتى الإذاعية والدعوية، كما حالفنى التوفيق فى كل مراحل حياتى وأحمد الله ربى على هذا الفيض الألهى.
ومن الأشياء التى سُرّ بها قلبى وسعد، وجود ساعداى فى الحياة، وهما ابنى عبدالرحمن بالفرقة الرابعة بكلية الطب، وابنتى “أفنان” بالثانوية العامة القسم الأدبى، وزوجتى، ولا أنسى ما أكرمنى به ربى من إنجازات حققتها فى عملى بإذاعة القرآن، والتى من أهمها تغطية أحد مواسم الحج، وحصولى على جائزة أفضل مذيع فى مسابقة (مذيعون مبدعون) وكذا تقديمى للأمسيات الدينية والبرامج الجماهيرية والحوارية وتأليفى لكتابين عن المعاقين بدأتهما بكتابى(حياتى).
بيت النبى
من أهم مصادر سعادتى وأعظم لحظات حياتى على الإطلاق تلك اللحظة المؤثرة، حينما وقفت أمام بيت النبى- صلى الله عليه وسلم- بالمدينة المنوّرة حيث استشعرت وقتها بأنى أمام أعظم الخلق جميعا، وانطلق لسانى دون أن أشعر، بأوصاف النبى صلى الله عليه وسلم وردت بالقرآن ناديته بـ “النبى والرسول والمدثر والمزمل وألم نشرح لك صدرك”.
هذه الأوصاف أجراها الله تعالى على لسانى، نعم ناديته بها، أتذكر عند عودتى أن قابلت رجلا يجلس على كرسى متحرك (مقعد)، سبحان الله!! وجدت وجهه يشع نورا لمجرد رؤيته لحضرة النبى صلى الله عليه وسلم فانكببت عليه لأقبله بشدة.
الإحسان للمسيئ!
قلت إن الإسلام أحد أهم مصادر سعادتكم فما الذى تعلمته من الإسلام وما تحب أن تنشره من تعاليمه؟
** نعم، الإسلام من أهم مصادر سعادتى فى دنياى، حيث علَّمنى الإسلام ألا أسيئ لأحد مهما حدث، فمن يسيئ إلىَّ أُحسن إليه، فإذا ما أحسنت إليه فلابد أن ينصلح حاله.
وأتمنى أن أنشر الأخلاق التى جاء بها الإسلام والتى يقول فيها ربنا فى كتابه العزيز فى سورة فُصِّلت: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولىّ حميم).
من وجهة نظرى المتواضعة، أرى أننا إذا نجحنا فى تطبيق هذه الأشياء كمبدأ عام بين الناس سينصلح أمر الدنيا كلها، ومن أهم مبادئي أن أحسن إلى من أساء إلىَّ، ومن هذا المنطلق فقد أكرمنى ربى بأن سامحت كل من ظلمنى، خاصة من ظلمنى بسبب وجود أشياء خِلْقية لا دخل لى فيها، بل هى إرادة ومشيئة إلهية.
وصية والدى
رسالة أمل تبعث بها لكل مُعاق يأتى بعد تجربة رضا عبد الناجحة؟
المذيع المعجزة
** أبعث برسالتى لكل معاق محمَّلة بالأمل، موصيا إياه بقولى: لا تجعل اليأس يتسلَّل إليك، بل اجعل الناس تنظر إلى ما هو فوق الإعاقة، وأهدي كل معاق وصية والدى لى، التى حمَّلها لى عندما أصبت بحالة نفسية بسبب نظرات الناس لى وأنا فى الإعدادية.
نظرة المجتمع للمعوقين ظالمة مائة فى المائة، لأن المجتمع لم يكن يستقبله استقبالا حسنا فى يوم من الأيام، وليس أدل على ذلك من تجربتى القاسية فى بداية حياتى حين قوبلت برفضى لتلقى التعليم بالمرحلة الابتدائية ليس لشئ إلا لأننى فاقد للذراعين، ومرورا بموقف البعض فى بداية رحلتى مع العمل الإذاعى، أمثال هذا الذى كان ينوى حرمانى من الحصول على حقّى ولكن الله تعالى أراد لى الخير.
وأطالب الدولة بضرورة النظر بعين الرحمة للمُعاقين، ففى الوقت الذي نجد فيه أن فرنسا بها وزير للمعاقين، وكذلك الإمارات، نجد عندنا هنا فى مصر أن المجلس القومى لشئون الإعاقة حبرا على ورق، ليس له واقعا على الأرض مما يجعلنى أتساءل: أين تفعيل قانون المعوقين؟! فاتقوا الله فى كل معاق، ولا تتكاسلوا عن أداء حقوقه، فهذه رسالة سامية تعد من أعظم الرسالات التى ربما تكون سببا فى دخولكم الجنة، بسبب إدخال الفرحة إلى قلوب هؤلاء الذين خلقهم الله تعالى، ولا دخل لهم فى إعاقتهم، وهذه كما قلنا إرادة ومشيئة إلهية.
السبيل الوحيد
بماذا ترد على مشوّهي صورة الأزهر الشريف؟ وعلى من يتّهمون مصر بالتشيع؟
** أقول لهؤلاء الذين يتعمّدون تشويه صورة أزهرنا الشريف: لم ولن تنالوا من قلعة العلم فى العالم الإسلامي، أزهرنا الشريف رمز الوسطية والاعتدال على مدى سنوات عمره التى تخطت الألف عام فى أوائل ثمانينيات القرن الماضي.
ويجب أن يعلم الجميع أنه لا قيام لنا فى مصر إلا بالأزهر، الذي يدرِّس الإسلام بهذا المفهوم الواسع الذى يعتمد على الوسطية، فالأزهر يجمع الكل ويظلّهم بمظلّته، ولا أري غير أن الأزهر هو السبيل الوحيد لخروج مصر من أزماتها.
ولمن يتّهمون مصر بالتشيع أقول لهم: مصر لم ولن تتشيع فى يوم من الأيام، مصر تحب آل البيت حبا جما، الناس فى مصر تحب آل البيت أكثر من حبّهم لأنفسهم، ونحن ننظر إلى سيدنا أبى بكر وعمر وعثمان وعلىّ، على أنهم أفضل الناس بعد النبي، وجميع الناس فى مصرنا ينظرون إلى آل البيت على أساس أنهم النسيم الذى يتنسّموه.
الخلاصة أن كل مسلم فى بلد الأزهر رغم وجود الفاطميين لعدة قرون بها إلا أنها لم تتشيع، مصر سُنّيّة ولم ولن تتشيع فى يوم من الأيام على مر العصور.
مصر فى القرآن
* ختاما، رسالة تبعث بها للمصريين جميعا، فماذا تقول فيها؟
** أقول لهم: هنيئا لكم بمصركم دُرَّة العالم أجمع، مصر التى أحبّها لأن الله سبحانه
وتعالى أحبّها، وذكرها صراحة فى قرآنه العزيز 5 مرات، كما ذكرها سبحانه فى مواضع كثيرة تلميحا (30 موضعا).
من أجل ذلك أهيب بكل مصرى يحب بلده، مناشدا إياه والمصريين جميعا: مصر تناديكم، تناديكم أن تعملوا لها ولمصلحة المحتاجين والمساكين، فاعملوا لمصلحتها، حيث أنها يجب أن تكون قائدة للوطن العربى.