يتميز الإنسان عن الكائنات الحية الأخرى بأنه حيوان ناطق.، يذكر الله عز وجل بني الإنسان بهذه النعمة، فيقول سبحانه وتعالى ﴿ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين﴾ أي لسانا ينطق به ولغة يتكلم بها. فلفظ اللسان يطلق على اللغة ذاتها ولذلك، تتخذ بعض كليات اللغات تسمية لها كلية الألسن. ويقول سبحانه وتعالى﴿ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا ﴾أي أن الله عز وجل أنزل هذا القرآن حكما، عربيا أي: مُحْكمًا متقنا، بأوضح الألسنة وأفصح اللغات، لئلا يقع فيه شك أو اشتباه.
واللغة العربية القانونية ؛تلك اللغة المستخدمة في سَنِّ القوانين والدساتير والتشريعات والأنظمة وتحرير الوثائق القانونية، فهي لغة شديدة الإتقان، قوية التعبير، دقيقة الوصف، وتعد من أصعب أنواع لغات الاختصاص نظرًا لما تتمتع به من خصوصيات ؛ فإذا ما ترتب عليها أيّ خطأٍ لغويٍّ ،أو تركيب نحويّ غير مضبوط، تُسبّب أضراراً تلحق بالفرد والمجتمع ، وهنا تظهر أهمية الِلغة العربية في مجال الصياغة القانونية، من خلال الصياغة القانونية السليمة التي تُبنى على ضبط القواعد القانونية ووضعها في قالبٍ لغويّ دقيق، بحيث تكون النصوص موجزة اللفظ، عميقة المعنى، واضحة المراد، لا يختلف في تفسيرها.
وتظهر قوة اللغة العربية من خلال اختلاف تقرير المعني بمجرد اختلاف مسائل الإعراب وبالتالي اختلاف الحركة الإعرابية في قوله تعالى: ﴿… أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ ۚ …﴾ الحركة الإعرابية جاءت فيصلًا بين الإيمان والكفر لأن في الجر فساد للمعنى.
وتعد اللغة العربية مكونًا أساسيًا للهوية الوطنية تحرص كل دولة على تحديد وبيان لغتها الوطنية والرسمية ضمن القواعد الدستورية ،التي ينبغي على كل سلطات الدولة الالتزام بها ،والتقيد بمقتضياتها، وقد تضمن دستور جمهورية مصر العربية 2014م، المادة الثانية ” الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع ” ، كما تضمّن دستور دولة الإمارات العربية المتحدة، الصادر في شهر يوليو عام 1971، في المادة السابعة «الإسلام هو الدين الرسمي للاتحاد، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع فيه، ولغة الاتحاد الرسمية هي اللغة العربية ” .
والصياغة التي يُعول عليها سلامة القواعد القانونية تُعرف في اللغةً بأنها: تهيئة الشي، وتعرف منهجـاً بأنهـا: أداةٌ لتحويل المادة الأولية التي تتكون منها القاعدة القانونية إلى قواعد عملية صالحة للتطبيق الفعلي علـى نحو يحقق الغاية التي يفصح عنها جوهرها، ويتم ذلك عن طريق اختيـار الوسـائل والأدوات الكفيلة بالترجمة الصادقة لمضمون القاعدة وإعطائها الشكل العملي الذي تصلح به للتطبيق ،كقواعد سهلة الفهم ،سهلة التطبيق ،غير قابلة للتأويل، ويطلق الشراح مصطلح الفن التشريعي على هذه الحرفة.
ومع ذلك فإن كثيراً من المشكلات تكمن في غموض اللوائح التي تصدرها جهات الإدارة، والمذكرات التي يكتبها المحامون والقضاة والمؤلفون ،وترجمة الأنظمة، والكتب وعقود الشركات من غير المتقنين للعربية، مما ينتج عنه ركاكة في الصياغة، والبعد عن أساليب البيان العربية.
فهناك بعض الألفاظ التي لا وجود لها في اللغة تم استخدامها، وهي ألفاظ ابتدعها الفكر القانوني والقضائي ، منها اصطلاح ” الكيوف الجنائية “، الذي استخدمته المحكمة الكائنة على قمة القضاء العادي في مصر- محكمة النقض- عام 1977م، في العديد من أحكامها. حيث قضت “بأن الأصل أن محكمة الموضوع لا تتقيد بالوصف القانوني الذي تُسبغه النيابة العامة على الواقعة المسندة إلى المتهم وأن واجبها أن تمحص الواقعة المطروحة عليها على جميع كيوفها وأوصافها وأن تطبق عليها القانون تطبيقا ًصحيحا ” .
وقد ورد مصطلح الكيوف أيضا في بعض أحكام المحكمة الاتحادية العليا بدولة الإمارات العربية المتحدة. عام 1988م ، حيث قضت ” لما كان من الأصول المقررة في الإجراءات الجزائية – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – أن محكمة الموضوع يستوي في ذلك أن تكون محكمة أول درجة أو محكمة ثاني درجة لا تتقيد بالوصف القانوني الذي تسبغه النيابة العامة على الفعل المسند إلى المتهم إذ من واجبها أن تمحص الواقعة المطروحة عليها ً بجميع أوصافها وكيوفها وأن تطبق عليها نص القانون تطبيقا ًصحيحا ” .
ولا يمكن أن نجحد أن السبب وراء ذلك يكمن في وجود نظام تعليمي به قصور كبير في الاهتمام باللغة العربية القانونية، نتيجة عدم وجود ها ضمن الخطط الدراسية لكليات القانون، والشريعة . لذا من الضروري أن يوجد اختبار يقيس المهارات والمعارف اللغوية القانونية، على غرار اختبارات التوفل في اللغة الإنجليزية، ويكون هذا الاختبار شهادة كفاءة لمن اجتازه بأنه حقيق بالكتابة القانونية.
وأخيرا: إنّ إتقان اللغة العربية القانونية ليس ترفاً معرفياً، ولا مثاليةً حالمة، ذلك إن إغفالها يؤدي إلى تعقيد فهم المواد القانونية، وزيادة احتمالية التأويل الخاطئ للأحكام القانونية، والفهم المغلوط للنص التشريعي، مما ينتج عنه تفسير النص لصالح بعض الجهات على خلاف إرادة المُشَرّع، ولا يمكن تجنب ذلك إلا بالملكة اللغوية التي تُحصّل بالدرس الجاد .