أهم لحظة فى حياة أى رسول هى التى يودع فيها أصحابه مثل “خطبة الوداع” بالنسبة للنبي محمد، و”موعظة الجبل” بالنسبة للمسيح، عليهما الصلاة والسلام.
اجتمع للرسول، صلى الله عليه وسلم، فى حجة الوداع مد البصر من أصحابه، فسعد برؤية ثمرة كفاحه وجهده، وقد اجتمعوا وأتوا إليه طائعين محبين بعد أن عادوه وحاربوه طويلاً، قال: «استنصت الناس يا جرير»، فأنصتت الدنيا كلها لكلمات النبى التى سيودع بها أصحابه والدنيا كلها بعد أن ملأها نوراً وضياءً ورحمةً، فقال لهم: «اسمعوا قولى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبداً. أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، فى شهركم هذا، فى بلدكم هذا. ألا إن كل شىء من أمر الجاهلية تحت قدمى موضوع»، فأسقط دماء وربا وكبر وغطرسة الجاهلية، وأول ربا أسقطه ربا عمه العباس، ثم أردف الرسول، صلى الله عليه وسلم، قائلاً: «أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يُعبد بأرضكم، ولكنه رضى أن يطاع فيما سوى ذلك فاحذروه على دينكم. اتقوا الله فى النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، إن لكم عليهن حقاً ولهن عليكم حقاً»، وشرح بعض هذه الحقوق، ثم قال: «أيها الناس اسمعوا وأطيعوا وإن تأمّر عليكم عبد حبشى مجدع ما أقام فيكم كتاب الله»، والمجدع أى مقطوع الأطراف، وهذا مجاز للتوضيح والبيان.
وأوصى بالخدم ومن تحت أيديهم قائلاً: «أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون ولا تعذبوهم، لا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه. لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض. تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى أبداً: كتاب الله وسنتى. ألا فليبلغ الشاهد الغائب، إنكم ستسألون عنى فماذا أنتم قائلون؟»، فارتفعت أصواتهم بالبكاء والهتاف: «نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت»، فاطمأن الحبيب، صلى الله عليه وسلم، إلى شهادة أصحابه، فرفع إصبعه إلى السماء قائلاً: «اللهم فاشهد»، ثلاث مرات، هكذا ودّع النبى محمد أمته والدنيا كلها.
أما “موعظة الجبل” فهى أعظم وأجمل مواعظ المسيح عليه السلام التى ألقاها وكأنه يودع حوارييه وأحبابه مثلما فعل الرسول فى خطبة الوداع ، فقد بدأ المسيح موعظة الجبل بالبشرى والتطويب لأصناف معينة عدّها فى بداية موعظته، منها على سبيل المثال قوله: «طوبى للمساكين والحزانى والودعاء والجياع والعطاشى إلى البر، والرحماء والأنقياء القلب، وللمطرودين من أجل البر” ثم أردف قائلاً: «لا تظنوا أنى جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، بل لأكمله وأتمه، قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل، ومن قتل يكون مستوجباً الحكم، وأما أنا فأقول: إن كل من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجباً الحكم، قد سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تزن، وأما أنا فأقول لكم: إن من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها فى قلبه، سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تحنث، بل أوف للرب أقسامك، وأما أنا فأقول لكم: لا تحلفوا البتة لا بالسماء ولا بالأرض ولا بأورشليم. وليكن كلامك: نعم، نعم، لا، لا، وما زاد على ذلك فهو من الشرير- يقصد الشيطان – سمعتم أنه قيل: عين بعين وسن بسن، وأما أنا فأقول: لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء كله، ومن سخرك ميلاً فاذهب معه اثنين، ومن سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده، سمعتم أنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول: أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم، وأحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم. طوبى لصانعى السلام لأنهم أبناء الله يدعون، أنتم ملح الأرض، ولكن إن فسد الملح فبماذا يصلح؟”
وصايا المسيح هذه كلها تصب فى درجة الإحسان، وهى موجودة فى القرآن أيضاً مثل قوله تعالى: «فاصفح الصفح الجميل»، وقوله سبحانه:” فاعف عنهم واصفح”
ترى لو عمل الناس بمثل هذه الوصايا الجامعة والمودعة هل يبقى شقى فى الأرض أو مظلوم أو محروم أو مضطهد؟! وما كانت هذه الصراعات المدمرة على الدنيا، فأين نحن جميعاً من وصايا الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، وموعظة محمد فى خطبة الوداع؟ وأين نحن من موعظة المسيح عليه السلام، على الجبل؟
من لا يعرف الحب لن يستطيع أن يكتب بحب عن المسيح عليه السلام أو يستشعر ما فى تعاليم المسيح من عطاء وحنان، فهو صاحب هتاف «الله محبة»، فلن يعرف الله ويعبده حقاً إلا من أشرقت فى قلبه أنوار محبته فجعلته محباً للكون وللناس والحجر والأرض، ولم تترك إشراقة هذا الحب ونورانيته مكاناً لكراهية أو لضغينة أو عداوة، بل يغلب عليه الحب ليشمل كل شىء بدءاً من محبة الله ومحبة خلقه وكونه والجمادات وحتى يحب أعداءه وخصومه فلا يكرههم بل يريد لهم الخير والهداية والعافية.
ومن لا يعرف الحب والعفو والصفح لن يعرف الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، الذى كان شعار دينه«السلام عليكم»، وهتف دوماً: «لن تدخلوا الجنة حتى تحابوا»، ورفض أن يدعو على ثقيف التى قتلت أصحابه مناشداً ربه:«اللهم اهدِ ثقيفاً»، ورفض أن يدعو على قومه الذين سبوه وشتموه وآذوه وحاولوا قتله فقال:«اللهم اهدِ قومى فإنهم لا يعلمون»، وحينما تمكن منهم لم يعذبهم كما عذبوه ولم يقتلهم كما قتلوا أصحابه، بل قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
من لا تعرف الرحمة قلبه فهو لن يعرف المسيح ومحمداً عليهما السلام، ومن تشرب قلبه بالقسوة والجحود وكأنه صخر أصم فهو لم يعش بقلبه وجوارحه مع هتاف المسيح ابن مريم:«طوبى للرحماء لأنهم يرحمون»، ولم تدرك مشاعره وجوارحه هتاف النبى محمد:«الراحمون يرحمهم الرحمن»، وشعاره:«ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء“