نحن مَعَ أَعْظَمِ حَدَثٍ وَأَكْبَرِ مُعْجِزَةٍ، حدَثَتْ لنَبِيِّنَا المُصْطَفَى، إِنَّهَا مُعْجِزَةُ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ. لَقَدْ أَتَتْ هَذِهِ الحَادِثَةُ العَظِيمَةُ وَالمُعْجِزَةُ البَاهِرَةُ؛ تَسْلِيَةً لِلنَّبِيِّ بَعْدَ فَاجِعَتَيْنِ أَصَابَتَاهُ فِي عَامٍ وَاحِدٍ: وَفَاةِ عَمِّهِ الَّذِي كَانَ يَحْمِيهُ، وَوَفَاةِ زَوْجَتِهِ الَّتِي كَانَتْ تُوَاسِيهِ.
لَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الحَادِثَةُ بَعْدَ ازْدِيَادِ الِاضْطِهَادِ، وَاشْتِدَادِ الإِيذَاءِ لِنَبِيِّنَا؛ فَقَدْ طَرَدَهُ أَهْلُ الطَّائِفِ، وَرَمَوْهُ بِالحِجَارَةِ حَتَّى أَدْمَوْا قَدَمَيْهِ الشَّرِيفَتَيْنِ، فَخَرَجَ هَارِبًا فَارًّا إِلَى مَكَّةَ دَاعِيًا رَبَّهُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ ضَعْفِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ.
وِفِي مَكَّةَ يُبْصَقُ فِي وَجْهِهِ، وَيُرْمَى سَلَا الجَزُورِ عَلَى ظَهْرِهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَيَزْدَادُ أَذَاهُمْ وَجُرْأَتُهُمْ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ وَأَكْثَرَ، وَهَذَا الَّذِي يُلَاقِيهِ مِنَ الأَذَى وَالإِهَانَةِ لَيْسَ بِسَبِبِ تَخَلِّي اللهِ وَبُعْدِهِ عَنْهُ؛ إِنَّمَا هِيَ سُنَّةُ اللهِ المَاضِيَةُ لِطَرِيقِ الأَنْبِيَاءِ وَسَبِيلِ المُصْلِحِينَ : “وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ” [الأنعام: 34].
فَجَاءَتْ هَذِهِ الحَادِثَةُ إِكْرَامًا لِلنَّبِيِّ عِنْدَ الخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ؛ لِتَكُونَ زَادًا لَهُ فِي عَزِيمَتِهِ، وَتَجْدِيدًا لِثَبَاتِهِ ، فإِنْ كَانَ أَهْلُ الأَرْضِ لَمْ يَعْرِفُوا قَدْرَكَ؛ فَإِنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ قَدْ عَرَفُوكَ، فَأَنْتَ أَنْتَ إِمَامُ المُرْسَلِينَ، وَأَنْتَ أَنْتَ حَبِيبُ رَبِّ العَالَمِينَ..
هَا هُوَ رَسُولُ اللهِ قَدْ آوَى إِلَى فِرَاشِهِ بَعْدَ أَنْ أَسْدَلَ اللَّيْلُ غَبَسَهُ، وَغَطَّى مَكَّةَ ظَلَامُهَا الدَّامِسُ. وَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى هَذِهِ الحَالِ بَيْنَ القَائِمِ وَاليَقْظَانِ؛ إِذْ فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِهِ، فَإِذَا الرُّوحُ الأَمِينُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ، فَأَخَذَ صَدْرَ النَّبِيِّ فَشَقَّهُ مِنْ نَحْرِهِ إِلَى أَسْفَلِ بَطْنِهِ، فَغَسَلَ قَلْبَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمٍ.
ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ قَدْ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا؛ فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِ النَّبِيِّ ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ جِيءَ بِالبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ، أَبْيَضُ، طَوِيلٌ، فَوْقَ الحِمَارِ وَدُونَ البَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرَفِهِ.
فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ النَّبِيُّ نَفَرَ مِنْهُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: أَلَا تَسْتَحِي يَا بُرَاقُ، فَوَاللهِ مَا رَكِبَكَ عَبْدٌ أَكْرَمُ مِنْهُ ،ثُمَّ سَكَنَ حَتَّى رَكِبَهُ النَّبِيُّ وَجِبْرِيلُ مَعَهُ، فَانْطَلَقَ بِهِمَا يَقْطَعُ السُّهُولَ وَالجِبَالَ فِي هَذَا الظَّلَامِ البَهِيمِ حَتَّى انْتَهَى بِهِمَا إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ. فَرَبَطَ النَّبِيُّ البُرَاقَ فِي حَلْقَةٍ كَانَ يَرْبُطُ بِهَا الأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ .
فَصَلَّى النَّبِيُّ فِي المَسْجِدِ الأَقْصَى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ المَسْجِدِ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَارَ اللَّبَنَ فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اخْتَرْتُ الفِطْرَةَ.
ثُمَّ عَرَجَ جِبْرِيلُ بِالنَّبِيِّ فِي رِحْلَةٍ سَمَاوِيَّةٍ يَقْطَعُ حُجُبَ السَّمَاءِ فِي لَيْلٍ بَهِيمٍ وَظَلَامٍ دَامِسٍ مُتَوَجِّهًا إِلَى رَبِّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
ومَعَ هَذِهِ المُعْجِزَةِ العَظِيمَةِ وِقْفَاتٌ وَتَأَمُّلَاتٌ عِدَّةٌ:
أَوَّلًا: هَذِهِ الحَادِثَةُ كَرَامَةٌ إِلَهِيَّةٌ، وَمُعْجِزَةٌ خَارِقَةٌ ذَكَرَهَا اللهُ سُبْحَانَهُ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ، فَيَجِبُ عَلَى المُسْلِمِ قَبُولُهَا وَالتَّسْلِيمُ بِهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ مُعَارَضَةُ الأُمُورِ الغَيْبِيَّةِ بِنَظَرِيَّاتٍ مَادِّيَّةٍ أَوْ مُعَامَلَاتٍ عَقْلِيَّةٍ .
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب: 36] وَمِنَ العَقْلِ أَنْ يُسَلِّمَ الإِنْسَانُ الزِّمَامَ لِلشَّرْعِ فِي الأُمُورِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ العَقْلُ عَلَى إِدْرَاكِهَا.
ثَانِيًا: إِنَّ إِسْرَاءَ النَّبِيِّ مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى فِيهِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَهَمِّيَّةِ هَذِهِ البُقْعَةِ المُبَارَكَةِ. فَهِيَ أَرْضُ النُّبُوَّاتِ، وَأُولَى القِبْلَتَيْنِ، وَثَالِثُ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَمَسْرَى رَسُولِ اللهِ وَمِنْهَا عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ. فَالوَاجِبُ عَلَى المُسْلِمِينَ اسْتِشْعَارُ مَسْئُولِيَّتِهِمْ أَمَامَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ تِجَاهَ مُقَدَّسَاتِهِمُ الشَّرِيفَةِ، وَإِنْ كُنَّا نَزْعُمُ عَدَمَ قُدْرَتِنَا عَلَى تَطْهِيرِ هَذِهِ البُقْعَةِ المُقَدَّسَةِ؛ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ تَحْيَا هَذِهِ القَضِيَّةُ فِي نُفُوسِنَا وَأَحَادِيثِنَا مَعَ وِقْفَتِنَا مَعَ إِخْوَانِنِا المُرَابِطِينَ هُنَاكَ بِالدُّعَاءِ وَالدَّعْمِ التَّامِّ عَلَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُخَلِّصُهَا مِنَ الصَّهَايِنَةِ المُعْتَدِينَ وَيَرْزُقُنَا مِنْهَا صَلَاةً قَبْلَ المَمَاتِ.
ثالثاً :فِي هَذِهِ الحَادِثَةِ العَظِيمَةِ إِمَامَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالأَنْبِيَاءِ؛ فَهَذَا دَلِيلٌ صَرِيحٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا القِيَادَ لَهُ، وَأَنَّ شَرِيعَةَ الإِسْلَامِ قَدْ نَسَخَتْ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ .”وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ” [آل عمران: 81] فَلْيَسَعْ أَتْبَاعُ الأَنْبِيَاءِ مَا وَسِعَ أَنْبِيَاءَهُمْ، وَلْيُسْلِمُوا لِهَذَا الدِّينِ العَظِيمِ الَّذِي لَا يَرْضَى اللهُ غَيْرَهُ “وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ” [آل عمران: 85].