عين العقل.. بقلم: مؤمن الهبـاء
لفرنسا تاريخ طويل فى دعم الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل منذ قيامها عام 1948 بما لا يقل عن دعم بريطانيا التى أصدرت وعد بلفور أو دعم أمريكا التى تقدم كل أصناف المساعدات المادية والعسكرية والمعنوية وصولا إلى وعد ترامب بفرض السيطرة الإسرائيلية على القدس ومجمل الأراضى الفلسطينية وتصفية القضية بدون مفاوضات وبدون سلام.
الدعم الفرنسى متنوع أيضا، يجمع بين ما هو مادى وما هو معنوى، ففرنسا أول دولة غربية انخرطت فى تقديم أحدث الأسلحة لإسرائيل منذ قيامها، وهى التى ساعدت إسرائيل فى بناء مفاعل ديمونة النووى السرى فى منتصف خمسينيات القرن الماضى على يد شيمون بيريز الذى كان مديرا عاما بوزارة الدفاع آنذاك وأجرى تنسيقا جيدا مع الحكومة الفرنسية فى العدوان الثلاثى على مصر عام 1956، وهى أول دولة أوروبية تضع قانونا لسجن كل من يشكك فى محرقة اليهود داخل غرف الغاز النازية، وبمقتضى هذا القانون حكمت بالسجن عاما مع وقف التنفيذ على مفكرها الكبير المسلم روجيه جارودى عام 1998 وبغرامة مالية ضخمة لأنه فقط شكَّك فى صدق الأرقام التى تعلنها الأبواق الصهيونية لهذه المحرقة فى كتابه “الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل”، كما فرضت على “جارودى” حصارا إعلاميا كثيفا استمر حتى وفاته عام 2012 عن عمر يناهز 99عاما.
واليوم يُقدم الرئيس الفرنسى مانويل ماكرون دعما جديدا لإسرائيل من خلال تبنّى مفهوم جديد يعتبر معاداة الصهيونية أحد الأشكال الحديثة لمعاداة السامية، وهى نُقلة نوعية لتحصين العقيدة الصهيونية التى كانت ومازالت عقيدة سياسية استعمارية استيطانية إرهابية لإقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين بقوة السلاح وتهجير أهلها إلى الشتات، وقد تطوع “ماكرون” بهذه البُشرى لزعماء يهود فى حفل عشاء بباريس ،وبالطبع رحَّب المؤتمر اليهودى العالمى بهذه المبادرة وقال إنه مجرد خطوة فى طريق طويل يتعيّن أن تتبعه خطوات ملموسة لتحويله إلى قانون وضمان تنفيذه.
وبهذا الخلط المقصود يتعمّد “ماكرون” المساواة بين مصطلح السامية التى تعبِّر عن مجموعات عرقية أو ثقافية تتحدث باللغات السامية ومنها العرب والعبرانيون والآشوريون- وإن اختصرت مؤخرا فى اليهود- وبين مصطلح الصهيونية التى هى عقيدة سياسية استعمارية استيطانية عدوانية، ويريد أن يجعل من معاداة الصهيونية “معاداة إسرائيل تحديدا” جريمة مثل جريمة معاداة السامية التى انتشرت فى الغرب من مئات السنين وكان العرب والمسلمون واليهود ضحاياها، وهذه فرية كبرى وعملية تدليس تاريخية، فنحن مثلا لا نعادى اليهود الذين لم يعتدوا علينا ولم يحاربونا فى الدين ولم يخرجونا من ديارنا، ولا نعادى اليهودية كدين سماوى احتفى به القرآن الكريم أيَّما احتفاء وجعل الإسلام امتدادا له، وجعل المسلمين وأهل الكتاب أمة واحدة، لكننا نكره ونعادى ونحارب الصهيونية التى اغتصبت أرض الإسلام وقتلت أبناءه ودنَّست وما زالت تدنِّس مساجده ومقدساته، بل إن هناك فى أوروبا وأمريكا من أصحاب الضمائر الحية من يكرهون إسرائيل بسبب ممارساتها العنصرية ويشكِّلون جماعات لمقاطعة التعامل مع بنوكها وجامعاتها ومراكزها البحثية ومنتجاتها الصناعية والزراعية القادمة من مستوطنات الأراضى المحتلة.
وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد اتخذت قرارا فى نوفمبر 1975ـ بعد نصر أكتوبر بعامين ـ يقضى باعتبار الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية والتمييز العنصرى ويطالب جميع دول العالم بمقاومة الأيديولوجية الصهيونية التى تشكِّل خطرا على الأمن والسلم العالميين، ثم فى ديسمبر 1991 ـ بعد تفكك الاتحاد السوفيتى وبدء مراوغات السلام ،أُلغى هذا القرار بضغوط أمريكية رهيبة.
نحن نرفض دعوات الكراهية والعنصرية وندين معاداة السامية لأننا أيضا ساميون ،ونحن ضد أى دعوة تمس الأديان أو تحض على كراهية البشر أيا كانت عقائدهم، نختلف عن الآخرين نعم، لكننا لا نكره من يختلف عنا، لهم دينهم ولنا ديننا، ونحن الذين دفعنا ثمن جرائم أوروبا ضد اليهود، من محاكم التفتيش فى الأندلس إلى محارق النازى فى ألمانيا، ومازلنا ندفع الثمن فى فلسطين، لكن معاداة الصهيونية شئ آخر، فنحن أمام أيديولوجية سياسية يختلف عليها حتى اليهود أنفسهم ،إذ يوجد منهم جزء يعارض إنشاء دولة لليهود يهاجرون إليها من كل أنحاء العالم ، ويدعو بدلا من ذلك لاندماجهم فى المجتمعات التى يعيشون فيها.
وفى السنوات الأخيرة ظهر فى الغرب تيار سياسى آخر عُرف بـ”الصهيونية المسيحية” وهو تيار يمينى متطرف فى انحيازه لإسرائيل، استطاع أن يأتى برئيسين إلى قمة السلطة فى أمريكا- أقوى بلد فى العالم- هما جورج بوش الابن ودونالد ترامب، ويعتقد هذا التيار المتنامى أن قيام إسرائيل على أرض فلسطين وتفوقها ضرورة حتمية طبقا لنبوءات الكتاب المقدَّس حتى يتحقق المجيء الثانى للمسيح إلى الأرض كملك منتصر يملؤها عدلا بعدما مُلئت جورا، ويعتقد الصهاينة المسيحيون أن من واجبهم الدفاع عن دولة إسرائيل، ويعارضون أى نقد لها ويشكِّلون أكبر لوبى فى العالم يؤيد أعتى المتشددين فى إسرائيل، الذين يرفضون أى انسحاب من الأراضى الفلسطينية المحتلة أو تفكيك أو إخلاء لأى مستوطنة إسرائيلية، كما يرفضون وبشكل قاطع حلَّ الدولتين، وأغلب الظن أن الرئيس الفرنسى يريد أن يجعل من هذه الصهيونية المسيحية عقيدة عالمية ملزِمة بحكم القانون.
لقد قامت إسرائيل بكل ما من شأنه التأكيد على أنها دولة عنصرية فاشية، من تهويد للقدس والاستيلاء على ما تبقى من أراض فلسطينية ومصادرة أراضى المواطنين العرب وإقامة جدار عازل وتطبيق التطهير العرقى بالمذابح الجماعية فى بعض المدن والقرى وحصار غزة وتدنيس المساجد وإصدار قوانين عنصرية على غرار أنها دولة قومية للشعب اليهودى فقط، وصارت أبشع نظام عنصرى موجود فى عالم اليوم ،ومع ذلك يريد “ماكرون وترامب” وأمثالهما تحصين هذه الممارسات العنصرية من النقد والملاحقة بقوانين جائرة، ورغم كل شئ سينتصر الحق فى النهاية وستنتصر الشرعية الدولية، “والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون”.