بقلم الشيخ/ رسمي عجلان
بعد حادثة قطار الموت بالنهار، أصيبت النفوس بالزعر من سموم النار، وخيم الحزن على الناس والانهيار، والبعض تغلب على اللحظة بالسخرية والتنكيت على المسؤولين ومتخذي القرار، وكنت في نفس اللحظة يدور في خلجاتي نفسي الحزينة سؤال: أيهما أخطر الإرهاب أم الإهمال؟ وكان الجواب: إن الإرهاب يقتل الإنسانية ويهدم البنية الأساسية ويدمر تاريخ وتراث الأمة ثم يتباهى بما فعل باعتباره جهادا بزعمه أو عملا له قيمة في ذهن من قام به! أما الإهمال فإنه يتعامل مع الإنسانية باعتبارها لا قيمة لها بل لا وجود لها.
الإرهاب يكشر عن أنيابه ويتخفى ويتلون ليطل علينا بين الحين والحين، أما الإهمال يعيش بيننا وينام في أحضاننا ويفرض نفسه علينا في كل نواحي الحياة اليومية، يطل بوجهه القبيح بلا حياء ويتعامل معنا بكل ثقة على أنه الابن المدلل.
الإرهاب يجد من يموله ويدعمه داخلياً وخارجياً سراً وعلنياً ويعلم ومتأكد أنه يرتكب سلوكاً إجرامياً، أما الإهمال يجد الدعم الداخلي المعنوي اليومي من المجتمع إما بصمت قاتل من أفراده أو مبرر مضحك من المسؤولين لا يسمن ولا يغني من جوع أو غير مشغول بما يدور حوله وما يحدث لبلده.
الإرهاب تواجهه يد فتية وقوة خفية منظمة ومقننة وموجهة وتعرف هدفها، أما الإهمال يتخذ أشكالاً تحول دون تحديد المسئوليات أو تحديد آلية المراقبة والمحاسبة، وليس له هدف، فأهدافه عشوائية وبلا هوية.
الإهمال سوك اجتماعي وثقافة شعب ليس سلوكاً فردياً بل هو تنظيم متكامل يعيش بيننا وبداخلنا يتخذ من الهزل والجد أشكالاً له لا يكف عن محاولات تطبيع نفسه داخل سلوك الأفراد اليومية في المجتمع.
منظومة الإهمال في بلادنا ترتكز على قواعد وأعمدة تحمل سقفها وهي تتمثل في: أشخاص غير مدرَّبين وغير مؤهلين وعايشين الأقدمية وبالتواكل على الرشوة والمحسوبية، مسئوليات غير محددة، مسئولون غير قادرين على تحمل المسؤولية- المنصب أكبر من قدراتهم العلمية والشخصية- اللارقابة بكل أشكالها، مسؤولون لا يملكون آليات المحاسبة أو غير قادرين على تفعيلها، مرؤوسون أمنوا العقاب فأساؤوا الإدارة، مبررون للإهمال بشكل يصيبك بجلطة، قواعد إدارية من الخمسينيات مغيبة ولا تتناسب مع الواقع الجديد وتطور وسائل الإدارة الحديثة، أما عن حملات الاغتيالات المعنوية للقيادات المبدعين والمتميزين والجادين والملتزمين بالانضباط والحيادية والإدارة الحديثة العلمية فحدِّث بلا حرج، التعامل مع التساهل في الإهمال باعتباره سلوكاً حميداً ونوعاً من التسامح والعفو والصفح الجميل.
الإهمال منظومة متكاملة تهاجم المجتمع جهاراً نهاراً بلا هوادة حتى ألفته الناس وأصبح هذا هو العادي في سلوكهم اليومي، من هنا أصبح من الواجب على الدولة إطلاق مشروع قومي لمكافحة الإهمال مثل مشروع 100 مليون صحة، تزامناً مع دعوة بناء الشخصية الوطنية المصرية، وإذا كانت الدولة تكافح الفساد المالي بكل ما أتت من قوة، فمن باب أولى مكافحة الفساد الإداري، لأن الفساد الإداري هو مورداً حصرياً لكل أنواع الفساد.
إذا كانت مكافحة الإرهاب أمن قومي وواجب وطني وديني، فإن مكافحة الإهمال المتجذر في العديد من المؤسسات والنفوس أولى الواجبات وأول الأولويات حيث قالوا قديماً: (يخرب بيت الهامل قبل بيت الظالم)، والحقيقة التي لا مراء فيها: (أن الإهمال يغتال الإنسان المصري والعربي في كل لحظة)، كما أن الفعل الإجرامي لمرتكب الإرهاب أو الإهمال يساوي الفعل السلبي للتقاعس عن التصدي له.
لا أبالغ إذا قلت: إن الإهمال والفساد أخوان متضامنان وحبيبان متلازمان يقومان بالقضاء على منظومة القيم والأخلاق.