هناك ارتباطٌ وثيقٌ وقديمٌ بين مصر وبلاد الحرمين، وهذا الارتباط قد عززته طبيعة الجغرافيا ووشائج الأنساب ووحدة الدين واللغة. وقد كشفت أخبار التاريخ وشواهد الواقع عن علاماتٍ مضيئةٍ وبصماتٍ عظيمةٍ لمصرَ المحروسة في مكة والمدينة، منذ ما قبل رفع قواعد الكعبة المشرفة وحتى الآن.
العهدُ الإِبراهيمي
فمنذ اللحظة الأولى لعمارة البيت الحرام كانت مصر هناك في صدارة المشهد؛ إذ إنَّ أولَ من سكن مكة وعمَّرَ المكان حول الكعبة المشرفة امرأةٌ مصريةٌ، كانت تحمل رضيعها بين يديها، راضيةً بالعيش وحدها في قلب الصحراء امتثالًا لأمر الله. وقد أصبح السعي بين الصفا والمروة -أحد أهم شعائر الحج والعمرة- إحياءً لسعي السيدة هاجر وتذكيرًا بهمتها العالية في البحث عن الماء؛ حتى نبع زمزم من تحت أقدام رضيعها بقدرة الله ثم ببركة سعيها وولدها.
ولما جاوز الابن إسماعيل -عليه السلام- سنَّ الصبا جاء الأمر الإلهي لأبيه إبراهيم -عليه السلام- بذبحه، وكانت الأُم المصرية في قلب معادلة الابتلاء، ونجحت مع زوجها وولدها في هذا الامتحان الرهيب، وتحول الابتلاء إلى فداء، وأصبح يوم الأضحى عيدًا سنويًا للمسلمين بعد وضعِ دعائمه في مكة المكرمة.
وقد عمَّرت مصرُ البيت الحرامَ بالبَشر والحَجَر؛ فأما الأول فإنه تمثل في وجود السيدة هاجر؛ مما دفع قبيلة جُرهم اليمنية للاستقرار بمكة، وساعد على ذلك وجود ماء زمزم. وأما الآخَرُ فقد رَوَى الأزرقي عن قتادة أن إبراهيم -عليه السلام- جمع حجارة الكعبة من خمسة جبال، منها: جبل الطور في سيناء.
وبعد رحلة عطاء وكفاح شاء الله أن تُدفن بنت مصر وأم العرب في حجر إسماعيل -عليه السلام- بجوار الكعبة المشرفة.
العهدُ المُحمدي
جاء مولد النبي الخاتم -عليه الصلاة والسلام- في مكة المكرمة استجابة لدعوة الخليل إبراهيم -عليه السلام-، حيث دعا مولاه بعد رفعه لقواعد البيت الحرام قائلًا “رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ”. وقد أعادت قريشٌ بناء الكعبة قبيل البعثة النبوية، وظهرت مِصر على مسرح الأحداث مجددًا عبر إسناد بناء الكعبة لرجلٍ مصري يُسمَّى باقوم القبطي، وقيل: إنَّه كان نجارًا جهَّز وركَّب أخشاب الكعبة.
وقد سبقت الإشارة إلى زواج سيدنا إبراهيم -عليه السلام- من السيدة هاجر-بنت مصر-، وإنجابها ولده إسماعيل -عليها وعليه السلام-، واستقرارها بمكة. كما شرفت مصر بزواج سيدنا محمد -عليه الصلاة والسلام- من ابنتها مارية القبطية، التي أقامت معه في المدينة وأنجبت ولده إبراهيم -رضي الله عنها وعنه-.
ومِن المصريين صحابةٌ عاشوا بالمدينة المنورة في العهد النبوي. مثل سادتنا: أبو رافع -مولى الرسول- شهدَ غزوة أحد والخندق وفتح مصر، وجبر بن عبد الله القبطي، ويعقوب القبطي، وأبو جذيع المرادي. ومن النساء: سيرين بنت شمعون القبطية أخت السيدة مارية القبطية وزوج حسان بن ثابت -شاعر الرسول-، وصحابية تُدعى أم زكريا -رضي الله عنهم جميعًا-.
عصرُ الخلفاء الراشدين
كانت مصر حاضرةً في وجدان الصحابة، وكانوا يرغبون أن تقوى شوكة المسلمين بإسلام أهلها؛ لِمَا لِمصر من إرثٍ تاريخي ضخم وتأثيرٍ جغرافي هائل وقوةٍ سُكانية كبيرة، ولأنها ستصبح بوابة الإسلام إلى قارة إفريقيا وغرب أوروبا. وفي العهد العُمَرِي تحققت البشارة النبوية بفَتح مصر، فزال عنها طغيانٌ واحتلالٌ رومانيٌ دام أكثر من ستة قرون، واستُشهد في سبيل تحريرها مئات الصحابة والتابعين ودُفنوا في ترابها الطاهر، وصارت ولايتها بعد الفتح لعمرو بن العاص -رضي الله عنه- الذي وصفها بقوله: “ولاية مصر تعدِل الخلافة”. وقد أحبَّت مصر الصحابة وتأثرت بهم؛ فاعتنق كثير من أهلها الإسلام وغيَّرَت لُغتَها إلى العربية.
وبعد شهورٍ من فتح مصر حدثت مجاعةٌ شديدةٌ في بلاد الحجاز (سنة 18 هـ) فأرسل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى والي مصر يطلب منه الغوث؛ فخرجت قافلةٌ تموينيةٌ كان أولها في المدينة المنورة وآخرها في القاهرة.