العصرُ الأُموي
عقب وفاة أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- (سنة 60 هـ) تعرض آل البيت لمحنةٍ عظيمةٍ على يد الأُمويين وقُتل كثيرٌ منهم؛ فهاجَر بعض آل البيت من الحجاز إلى مصر طلبًا للأمان؛ فقوبلوا بحفاوةٍ كبيرةٍ، وسُميت أحياء سكنية بأسمائهم في القاهرة والأقاليم، ونالت بهم مصر الفخر والبركة، حتى قيل: “إن آل البيت لم يأتوا من المدينة إلى مصر، بل أتَوا بالمدينة إلى مصر”!.
العصرُ العَباسي
سقطت الدولة الأموية، وآلت الخلافة إلى بني العباس (سنة 132هـ). وبعد ما يزيد عن عشرين عامًا من بداية العصر العباسي ارتحل الإمام ورشٌ المصري (ت 197هـ) إلى المدينة المنورة؛ ليقرأ القرآن بالسند المتصل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- على الإمام نافع المدني (ت 169 هـ)؛ فتشابكت أسانيد المصريين بالمدنيين، وأصبحت قراءة الإمام ورش عن نافع -رضي الله عنهما- ثاني أكثر القراءات انتشارًا في العالم.
العصرُ العُثماني
وننتقل إلى العصر العثماني، وفيه أُعيد بناء الكعبة وفق طرازها الحالي في عهد السلطان مراد الرابع (سنة 1040هـ)، وذلك بعد تعرضها لأضرارٍ كبيرةٍ بسبب السيول الجارفة؛ فتم استقدام الآلات والصُناع والمهندسين من مصر؛ فكانت عملية إعادة البناء مصريةً بامتياز.
وقد ظلت مصر تحظى بشرف صناعة كُسوة الكعبة المشرفة على مدار قرون، حتى صدر قرار من والي مصر محمد على باشا بإنشاء دارٍ لكسوة الكعبة بحي الإمام الحسين بالقاهرة (سنة 1233 هـ). وكانت مصر تقيم احتفالًا رسميًا وشعبيًا يحضره الولاة والقضاة وعلماء الأزهر وأعيان التجار وعامة الناس فرحًا بإرسال الكسوة إلى الكعبة.
العصرُ الحديث
وفي العصر الحديث أَنشأَت السعودية عددًا من الجامعات بعد سنوات قلائل من تأسيس المملكة (سنة 1932م)؛ ودُعِى بعضٌ علماء مصر -من تخصصات عِدة-؛ للتدريس ووضع المناهج، وكان من بين شيوخ الأزهر هناك: الإمام محمد الغزالي -الذي استجاب الله دعوته ودُفن بالبقيع(سنة 1996م)-، والإمام الشعراوي الذي حدثت له كرامةٌ في قضية نقل مقام إبراهيم لأجل تيسير حركة الطواف حول الكعبة، واستجابت المملكة لرؤيته وأعادَت بناء المقام وفق تلك الرؤية، ولا تزال خطبته العصماء هناك يوم عرفة يَتردد ذكرها ويُنتفع بمحتواها.
وقبيل منتصف القرن العشرين كان وزير الزراعة المصري أحمد باشا حمزة في زيارة للمسجد النبوي فوجد المسجد ما زال يُضاء بالزيت؛ فبادر بإدخال الكهرباء على نفقته الخاصة؛ فكان أول من أنار المسجد النبوي بالكهرباء.
وبُعيد ذلك بسنوات قلائل كان المهندس المصري محمد كمال إسماعيل يُشرف على أكبر توسعة حدثت في تاريخ الحرمين الشريفين -المكي والنبوي-. وقد أَوكلت إليه الدولة السعودية هذه المهمة الجليلة بعدما رأت عبقريته المعمارية في إنشاء “دار القضاء العالي – مجمع التحرير- مسجد صلاح الدين الأيوبي” بمصر.
وفي نهايات العِقد السابع من القرن العشرين تسربت المياه في الحرم المكي؛ فسارعت الدولة السعودية إلى علاج تسرب المياه من خلال الكشف عن منابع زمزم وتطهيره مما سقط فيه، لكن المهمة كانت صعبة فالبئر عميقٌة والرؤية بداخلها ضعيفة وفيها أشياء وقعت على مدى قرون؛ لذا استعانت بلاد الحرمين باثنين من أمهر الغواصين -أحدهما باكستاني والآخر مصري يُدعى محمد يونس-، وقد نجحت المهمة على وجهها الأكمل.
وتقوم المملكة العربية السعودية حاليًا بتوسعاتٍ ضحمةٍ وعملاقةٍ في الحرمين الشريفين، وقد استعانت بعدد كبير من المهندسين والعمال المصريين للمشاركة في تلك التوسعات؛ وبهذا يتصلُ الحاضر بالماضي ويستكمل الأخلاف دور الأسلاف في عمارة الحرمين الشريفين.
الخاتمة
تلك إطلالةٌ عابرةٌ ومقالةٌ مختصرةٌ، طالعنا فيها سِفرًا من أعظم وأشرف أسفَار التاريخ، وكشفنا جانبًا من جوانب العظمة في شخصية مصر. كما بينا بالأدلة والشواهد أن علاقة مصر بالحجاز تتسم بالخصوصية الشديدة، لأنها وثيقة العُرى وقديمة الوجود ومتشعبة الأحوال ومستندة إلى أخوة الدين والنسب واللغة ومرتبطةٌ جغرافيًا وتاريخيًا.
إن مصر كانت ولا تزال وستظل سندًا للعروبة، ومعقلًا للإسلام، وملاذًا للمسلمين. وأهل مصر أخوال العرب وأصهار الرسول وجيشها في رباط إلى يوم القيامة. وأما بلاد الحجاز فهي مَنشَأ الرسول، ومهبط الوحي، ومهد الدعوة، ومنبع الرسالة. وإذا كانت قِبلة العبادة -الكعبة المشرفة- في مكة؛ فإن في مصر قِبلة العلوم -الأزهر الشريف-. وإذا كان القرآن الكريم قد نزل في بلاد الحجاز؛ فإنه قد قُرئ في مصر.
حفظ الله الحرمين الشريفين، وبارك مصر المحروسة