تُعرفُ السُّنةُ النبوية بأنها كلُّ ما قالَه سيدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، أو فعلَه، أو أقرَّهُ (أي ما فُعِل أمامَه فلم يَعترضْ عليه)، أو ما جاءَ في وَصفِه صلى الله عليه وسلم الخَلقيِّ والخُلقيِّ.
والسُّنة النبوية باعتبارها تتبعًا لأقوالِ سيدِنا رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأفعالِه وإقرارِهِ ووَصفِهِ الخَلقيّ والخُلقي فإنها تُعدُّ تأريخًا دقيقًا لم تشهد البشرية له مثيلًا إلى يومِ الناس هذا، وهل نقف في سائر كتب التاريخ على شخص نُقلت أقواله وأفعاله وإقراراته ووصفه بمثل هذه الدقة والشمول اللذين نُقلت بهما السنة المطهّرة؟!
وليس الشمول والدقة فقط هما مزية هذا التأريخ، وإنما له مزايا أخرى لم تجتمع لتأريخ آخر، فمن مزاياه أنَّ عدد الناقلين له أكثر من الناقلين لغيره، فقد حملته الأمة جيلًا فجيلًا ليس باعتباره وحيًّا مقدسًا فقط، بل باعتباره الوحي العالَميّ الخاتم، ومعنى عالميته أنَّه لجميع الناس {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا}، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} فلا بد إذن من أن يصل إليهم. ومعنى خاتميته أنه لن يُبعث رسول آخر لمهمة البلاغ، فهذا موكول للأُمّة، وقد أمرَ الله تعالى الأُمة بذلك فقال سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وكلمة (منكم) في هذه الآية تحتمل وجهيْنِ، فقد تفيد معنى البعضية، فتكون الآية الكريمة أوجبت على الأمة أن تنهض منها طائفة مؤهلة تحمل الوحي وتدعو إليه وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
وقد يكون المقصود بكلمة (منكم) عموم الأمة، كما نقولُ مثلًا: أيها الآباء ليُكن منكم قدوةٌ لأبنائكم، فالمعنى هنا أن يكون كل واحد منكم قدوة لأبنائه، وقد وُصف عمومُ الأمة بهذا في القرآن الكريم {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}.
وإذا نظرنا في الواقع سنجد أن الأمة قد حققت كلا المعنيين، فقد نهض من الأُمة في كل جيل علماء لحمل السُّنَّة وتبليغها منذ الجيل الأول، كما أن عموم الأمة نقَلوا عموم السنة، فنقلوا العبادات من صلاة وزكاة وصيام وحج…، والأحكام الشائعة للمعاملات ومكارم الأخلاق جيلًا فجيلًا، نقلًا متواترًا لا يسعُ أحدًا أن يُشكّك فيه أو يُنكره.
وطبيعة السنّة أكسبتها وثاقةً حيث حرصت الأمة منذ الجيل الأول على نقلها نقلًا دقيقًا، فكان الصحابة يتعاهدون مجالس سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقل بعضهم السنة عن بعض بدقة. وصار لها وثاقة من جهة أخرى، ألا وهي أن الصحابة الكرام حرصوا على أن تكون حياة كل منهم تطبيقًا عمليًّا لما عرفه من السنة المطهرة.
ولهذا التأريخ الخاص مزية ليست لغيره قطعًا، وهي التأريخ الدقيق لمؤرّخيه على كثرتهم، تأريخًا يرصد شيوخ كل مؤرخ وتلاميذه، ومدى سلامة كل منهم مما يطعن في صحة نقله، ودرجة إتقانه لما ينقله، وعدم مخالفته فيما نقل لمن هو أدق منه، وعدم مخالفة المنقول للحقائق الثابتة.
وإذا كانت السنّة النبوية بالنسبة لنا -نحن المسلمين- مصدرًا من مصادر التشريع، فإنها بالنسبة لغيرنا جزء مهمٌّ من الموروث العامّ تُعدُّ المناداة بإهداره أو التكذيب به اعتداءً أثيمًا لا ترتكبه نفس حُرّة، ولا ترضاه نفس منصفة.
هذا إن كان موروثًا عاديًّا، فكيف الحال وهو موروث أثَّر في حضارات العالم ومنها أوروبا التي عاشَ جنوبها الغربي تحت ظلال رايته ثمانية قرون كانت أزهى عصور الغرب، وأشدها أثرًا في تقدّمه؟!