يرجع جانب كبير من نجاح المقاومة الفلسطينية في إيصال صوتها إلى شرق العالم وغربه إلى المسلك الإعلامي الذى ابتدعته لنفسها، لتثبت للعالم جدارتها وقدرتها على إدارة المعركة مع العدو الصهيوني بكفاءة، في ميدان الحرب وعلى مائدة المفاوضات، واستفادت في ذلك من الوسائل الإعلامية المستحدثة، التي أتاحها عصر الصورة والموبايلات الذكية والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، التي عوضتها عن غياب الصحف والقنوات الفضائية.
وبشهادة العدو قبل الصديق، فقد حققت المقاومة نجاحا باهرا في استعمال هذه الوسائل لتبليغ رسائلها إلى العالم، وأول هذه الرسائل إقناع الشعوب بأنها حركة مقاومة وطنية، تقاتل بشرف من أجل قضية تحرير شعبها وأرضها ومقدساتها، وليست جماعات إرهابية همجية انتقامية فوضوية، ومواجهة أكاذيب العدو الإعلامية، ومخططاته الإجرامية، وسلوكه النازي الجبان في ميدان الحرب.
وفي ظل الحصار الرهيب، ومن داخل الأنفاق الخانقة، استطاعت كل من كتائب القسام وسرايا القدس إنتاج المحتوى الإعلامي الذي يعبر بالصوت والصورة عن الجهد الميداني، فيكون مواكبا للحدث في لحظة حدوثه، ربما لأول مرة في تاريخ الحروب، وأحيانا أثناء الإعداد للحدث، وأحيانا أخرى بعد أن يتحقق الحدث، وتظهر نتائجه.
وقد اكتسبت البيانات العسكرية الصادرة عن القسام وسرايا القدس مصداقية عالية لدى كل من يتابعها، بسبب التزام الناطقين باسم الفصيلين بالحقيقة، وبتقديم الأدلة على صدق ما يقدمانه للجمهور، وصارت التعبيرات المستخدمة في بيانات أبي عبيدة وأبي حمزة رائجة على ألسنة الإعلاميين والمحللين الذين يتعاملون مع هذه البيانات، حتى في الوسائط الإعلامية الإسرائيلية والأمريكية والغربية عموما، وكان لهذه البيانات دور كبير في كشف الأكاذيب التي يروجها الجيش الإسرائيلي بشأن انتصاراته الوهمية في المواجهات العسكرية، والتغطية على جرائمه القذرة ضد المدنيين النازحين، وهي المادة الإعلامية التي جعلت من السهل جرجرة هذا الجيش إلى محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات، ودفعت الأمم المتحدة إلى إدراجه ضمن الجيوش المجرمة التي تقتل الأطفال، وهي ضربة موجعة للكيان الصهيوني وحلفائه الغربيين الذين يضعون أنفسهم دائما فوق المحاسبة الدولية.
وما نراه اليوم من رفض عالمي واسع لجرائم جيش الاحتلال في الصحف والفضائيات العالمية، والتظاهرات التى تنطلق يوميا في شوارع وميادين وجامعات أوروبا وأمريكا هو حصاد طبيعي لنجاح إعلام المقاومة، رغم السلبيات وجوانب القصور التى تحيط بهذا الإعلام، والضغوط الهائلة التى يتعرض لها من أجل تحجيمه والتعتيم عليه.
ومما يؤسف له أن وسائل الإعلام العربية التي تتفاعل مع إعلام المقاومة وتؤازره نادرة جدا، وغالبية هذه الوسائل تتناول إعلام المقاومة ببرود شديد، وموضوعية مفتعلة، ولم تقدم الملحمة كاملة، بل تقتصر علي بعض زواياها، وهناك بعض الصحف والفضائيات تتعمد التركيز علي المأساة وحرب الابادة فحسب، دون أن تتوسع في إبراز بطولات المقاومة، وصمود الشعب الفلسطيني، الذي يمثل الحاضنة الطبيعية لهذه البطولات، رغم الأثمان الباهظة التي يدفعها عن طيب خاطر، إدراكا بأن ليس لديه خيار آخر، كما يقول أبو عبيدة: “نصر أو استشهاد”.
ومما يؤسف له أكثر أن العدو الصهيوني استطاع على مدى الشهور الثمانية الماضية أن يستخدم بعض وسائل الاعلام العربية، ويخترقها بخطابه السياسى وأكاذيبه، فانخرطت هذه الوسائل فى إدانة المقاومة وتخذيلها بدعوى الواقعية السياسية والحرص على شعب غزة، بل إن بعض هذه الفضائيات العربية تطوعت وتسابقت في نقل مؤتمرات العدو وخطابات نتنياهو وفريقه العسكري، وكان من الممكن بثها مختصرة دون حاجة الي نقل كامل بحجة الحيادية، فلا حياد في قضية فلسطين، التي هي قضية شعب يدافع عن نفسه في مواجهة جريمة إبادة جماعية محكمة.
لقد كان الإعلام العربي وما زال مرآة للواقع العربي الذي تتباين مواقفه من الحرب وفق موقفه السياسي من فصائل المقاومة، وكان الأحرى أن تتوحد المواقف العربية كافة مع المقاومة في هذا الظرف المصيري، وتتنادى إلى المساندة والتأييد، والتسامي فوق الخلافات الفكرية والسياسية، إيمانا بوحدة الأمن القومي العربي، والمصير العربي، وإدراكا بأن هذه المساندة من أجل الشعب الفلسطيني وقضيته الكبرى، وليست لصالح فصيل سياسي أو حزبي، فالحرب التي يخوضها هذا الشعب البطل اليوم هي حرب استراتيجية، سوف تحدد نتائجها شكل منطقتنا العربية وتوازنات القوى فيها لسنوات قادمة، لذلك على الإعلام العربي ـ بوسائله المقروءة والمسموعة والمرئية ـ أن يكون أكثر وعيا بأن دعم غزة ومقاوميها قضية حياة أو موت بالنسبة للعرب جميعا، لوجودهم ولمستقبل شعوبهم وأوطانهم.
يجب على الإعلام العربي أن يفرق بين الخلافات والاختلافات السياسية والفكرية وبين ضرورات المرحلة المصيرية (الوجودية) التي تمر بها أمتنا، والتى تتطلب انتهاج إستراتيجية إعلامية عربية جديدة نحو ملحمة غزة، لا حياد فيها يبرر للعدو سياسيات القتل والتخريب والتهجير، بل انحياز كامل وواضح وصريح لشعب فلسطين المظلوم، ومخاطبة الغرب والشعوب التي وقفت مع غزة بلغاتهم، وبأساليب إعلامية جديدة، قادرة على إقناعهم بعدالة القضية الفلسطينية، التي يحارب ويموت من أجلها الرجل والمرأة والصبي والطفل.
كما يجب أن يعكس الإعلام العربي نبض الشارع العربي، المرتبط بفلسطين وأهلها ارتباطا عضويا، ويوقظ الوعي العام بمآلات الحرب والجرائم التي ارتكبها العدو ويرتكبها كل يوم، وينقذ الأمة من طابور المثقفين المنبهرين بإسرائيل، والمخدوعين فيها، الذين مازالوا يروجون أكاذيبها، وما زالوا غير قادرين على استيعاب فكرة المقاومة، ويعتبرونها انتحارا، دون أن يفرقوا بين المنتحر في غير قضية، والمقاوم الشريف الذي يضحي بحياته عن طيب خاطر من أجل حرية شعبه ووطنه ومقدساته.
إن بريق الحق الذي أظهرته المقاومة صار يقهر الروايات الإسرائيلية الكاذبة التى انفردت بالساحات الإعلامية لعقود طويلة، وهذا لم يحدث بالشعارات والأناشيد الزاعقة، وإنما بالشجاعة في الميدان، وصدق الكلمة، وقبل ذلك وبعده بتأييد الله عز وجل، الذي وعد عباده المظلومين بالنصر، ولن يخلف الله وعده.