بقلم الدكتور: عمران صبره الجازوي
ثمة مقولةٌ طالما ترددت على أفواه المجادلين والمفكرين ، ولا كتها ألسنتهم نصها : ” الاختلافُ في الرأي لا يُفسدُ للودّ قضية ” . بيدّ أن في نفسي منها شيئاً ، فهي وإن صدقت في زمان أسلافنا العظام الذين صفت نفوسهم ، وزكت قلوبهم من أن تدنّسها شوائب الحقد أو الغل أو الكره فلم تجد هذه الأدواء إلي قلوبهم سبيلاً ، وربأوا بأنفسهم عن أن يكون حظهم من الجدال هو حب الظهور أو الاستعلاء ، أو استعراض عضلاتهم الفكرية على مخالفيهم بل كان هدفهم هو ظهور الحق على لسانهم أو لسان غيرهم ، ولله درُّ شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – ذلك العالم الرباني الذي – اتُهم بالغلو والتطرف ، وهو برئ الأديم ( متهمٌ بما لم يفعل ) إذ قد تمثل وسطية الإسلام ، واستلهم منهجه الذي وضُع فوق التقصير ، ودون الغلو – فعندما وشى به مخالفوه في الرأي ، واستدعوا عليه السلطة الحاكمة ، فأودعته السجن حتى رجع الملك الناصر بن قلاوون ، وأفرج عنه وأكرمه ,وأجلّه ، واستفتاه في قتل من وشى به ، وأرادوا قتله ، ولكن الشيخ شرع في مدحهم والثناء عليهم ، وقال له : إنّ هؤلاء أفضل ما في مملكتك فإن قتلتهم فلا تجد بديلاَ عنهم ، وما فتئ يقول : من آذاني فهو مني في حِلّ ، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه . وكان طالما يدعو الله لهم : اللهم هب لهم نوراً يهتدون به إلى الحق .
أقول : إن أمثال هؤلاء من تصدق عندهم مقولة : الاختلاف في الرأي لا يُفسد للودّ قضية . أما في زماننا فهي عاريةٌ من الصدق إذ الاختلاف في الرأي يفسد كل قضايا الودّ ، ويستأصل شأفته ، ويأتي على بنيان الإخوة من القواعد ، ويفضي إلى القطيعة والتدابر ، وما ذلك إلا لانعدام الإخلاص ، وفساد النوايا ، وتعصب كلٍ منا لآراء جماعته ، أو معتقدات مذهبه تعصباً أعمى تعوزه الحجة ، وينقصه الدليل رائده في ذلك الهوى ، أو تقديس المشايخ تقديساً يصل في بعض الأحيان إلى عبادتهم وكأنّ لسان حال شيخهم يقول لهم : ما أُريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ، وهذا بدوره يقود إلى الشطط والبعد عن منهج الله الذي اختطه لعباده ، وبالتالي التخلف عن ركب الأمم المتقدمة ؛ لأننا شُغلنا بخلافاتنا الداخلية ، وانشغلنا عن مواجهة التحديات الخارجية . فمتى نستيقظ من سباتنا الذي طال أمده حتى صُنفت حضارتنا في قائمة الحضارات بالحضارة النائمة ؟ ، ومتى نستفيق من غفوتنا ، ونعود سيرتنا الأولى إخوةً متحابين لا يفتّ في عضد إخوتنا خلاف ، أو يعكّر صفو مودتنا جدال ؟ ونصبح يداً واحدةً على من عادانا ، أو عطّل ركب حضارتنا ، وتتصافح الأيدي ، وتتعانق الأبدان ، وتتآلف القلوب والأرواح ، فيصدق علينا قول ربنا – عز وجل – : ” كنتم خير أمةٍ أُخرجت للناس … ” آل عمران آية / 110.