الإمام الشعراوي ..والشيخ شعبان
عندما تلتقي القلوب على حب القرآن
الأسبوع الماضي وتحديداً يوم 17 يونيو، الذكرى الثانية لوفاة والدي الحبيب فضيلة الإمام الشيخ المقرئ الأصولي الدكتور شعبان محمد إسماعيل، أستاذ علمي أصول الفقه والقراءات بجامعة الأزهر الشريف، ومن التقديرات الإلهية أن تكون ذكراه العطرة هي نفس ذكرى وفاة فضيلة الإمام الشيخ محمد متولي الشعراوي إمام الدعاة.
وهذا ليس من قبيل الصدفة، فكل شيء مقدر عند الله تعالى، ومكتوب في اللوح المحفوظ، قال تعالى: (لِكُلِّ أَجَلࣲ كِتَابࣱ)، ولكن تلاقت أرواح الإمامين الشيخ شعبان والشيخ الشعراوي، أثناء حياتهما على حب كتاب الله، والعمل على تعلمه وتعليمه، كل في مجاله، فوالدي كان مهتماً بعلوم القرآن والقراءات التي هي من أصعب وأدق العلوم لأنها تتعلق بكلام الله عز وجل، وفضيلة الإمام الشعراوي كان مهتماً بتفسير آياته وله خواطره التي مازلنا ننهل منها حتى الآن.
وكان والدي رحمه الله يتحدث معي كثيراً عن علاقته الطيبة بالإمام الشعراوي، وأخبرني أنهما تربطهما علاقة صداقة وحب ومودة واحترام العلماء منذ فترة من الزمن، وبعد وفاة والدي وأثناء تصفحي كنوزه العلمية التي تركها لنا من مؤلفات ومقالات، وجدت مقالاً قديماً شدني عنوانه الذي كان يتصدره اسم الإمام الشعراوي.
المقال كتبه والدي دفاعاً عن الإمام الراحل ضد الهجمة الشرسة التي كانت تطوله في ذاك الوقت بسبب قصيدة شعرية كتبها الإمام الشعراوي يمدح فيها الملك فهد بن عبدالعزيز، بعد أن شهد عهده أكبر توسعة على الإطلاق للحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة بمكة وتطويرهم، قال فيها: “يا ابن عبدالعزيز يا فهد شكرًا، دمت للدين والعروبة فخرًا، أنت ظل الله في الأرض، تحيا بك البلاد أمنًا وسرًا، أنت زدت المقدسات شموخا”.
وما أن نشر فضيلة الإمام الشعراوي هذه القصيدة حتى أثيرت عليه ضجة وهجوم كبيرين خاصة من قبل العلمانيين في جميع وسائل الإعلام في ذلك الوقت، فكتب والدي الشيخ شعبان مقالاً طويلاً بعنوان “الحق معك أستاذنا الشيخ الشعراوي”، أذكر لكم بعضاً منه.
وجاء في المقال “عجبت لهذه الضجة التي أثيرت حول قصيدة أستاذنا الشيخ الشعراوي والتي يمدح فيها خادم الحرمين الشريفين، وجاء في القصيدة “إنه ظل الله في الأرض” لأن ما قاله أستاذنا له أصل صحيح في كتب السنة، فقد روى الطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان، عن أبي بكرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: “السلطان ظل الله في الأرض، فمن أكرمه أكرمه الله، ومن أهانه أهانه الله” حديث صحيح.
وشرح والدي في مقاله حديث رسول الله، واستشهد بآراء كثيرة لا مجال لعرضها هنا، واختتم مقاله قائلاً: “وبذلك يكون الحق مع أستاذنا الشيخ الشعراوي، وأن ما قاله فضيلته لا يتعارض مع العقيدة الصحيحة، وأن الهدف من وراء هذه الزوبعة هو تشويه القمم الإسلامية التي تدافع عن الحق والفضيلة، والنيل منهم، تمشياً مع الخط المعادي للإسلام والمسلمين”.
مواقف كثيرة مشتركة جمعت بين الإمامين للدفاع عن الإسلام، وخدمة كتابه العزيز، كما أن الاثنين كانت لهما جهودهما في الدعوة الإسلامية في مهبط الوحي بمكة المكرمة وإقامة الدروس القرآنية في الحرمين الشريفين، ونتذكر جميعاً في عام 1976 ألقى الإمام الشعراوي خطبة الحج على جبل عرفات، بالإضافة إلى دروسه القرآنية في الحرمين.
كما أتذكر أنه منذ أكثر من 20 عاماً دعا والدي الله تعالى أن يُنهي حياته العلمية وخدمته للقرآن الكريم في مهبط الوحي بمكة المكرمة، فكان له ذلك بفضل من الله تعالى، حيث أسس هناك قسماً للدراسات العليا في علم القراءات وتخرج على يديه طلاب وطالبات سعوديين ومن دول إسلامية أخرى، يحملون الماجستير والدكتوراه في هذا العلم الفريد.
وكان من تلاميذ فقيد الأمة الإسلامية الدكتور شعبان إسماعيل، الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس إمام الحرم المكي، حيث درس على يد الوالد أصول الفقه ورقاه في درجته العلمية، وكان الشيخ السديس يقول دائماً: “تتلمذنا على كتب الدكتور شعبان منذ الصغر”، كما كان من تلاميذه أيضاً من أئمة الحرم المكي الدكتور فيصل الغزاوي، والدكتور خالد الغامدي.
ظل والدي الدكتور شعبان رحمه الله يعمل على خدمة كتاب الله ويعلم ويقرئ طلاب العلم حتى آخر نبض في حياته وقد ناهز الأربعة والثمانين عاماً، وتوفاه الله تعالى بعد أن أمَّنا في صلاة فجر يوم الجمعة 17 يونيو أنا وأخي نصر، وكان يشعر بقرب الأجل فأجلسنا بجواره بعد الانتهاء من الصلاة وأوصانا بفضيلة “العفو”، لم يوصنا بغيرها وكأن هناك سراً بينه وبين الله تعالى يتعلق بهذه الفضيلة، وذهب لفراشه وفاضت روحه إلى بارئها بعدها بساعات.
رحم الله تعالى قلوباً التقت على حب وخدمة كتاب الله، وأسكن الله تعالى والدي والإمام الشعراوي فسيح جناته، وجزاهما خيراً عن علمهما الذي تركاه للبشرية، قال تعالى: (يَرْفَعُ اللهُ الذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والذِينَ أُوتوا العِلْمَ دَرجاتٍ)، وقال النبي: “إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنَّما ورَّثوا العلم، فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافر”، وقول أيضاً: “خيركم من تعلم القرآن وعلمه”.
أحمد شعبان