د. أحمد سليمان: بابَ الاجتهاد سيظل مفتوحًا مُشَرَّعا ومُشَرِّعا إلى يوم القيامة للعلماء المتخصصين
وطالب بتطوير منظومة التعليم الإسلامي لإنتاج عقول متفتحة تضبط بوصلة الحياة المتطورة
دعا الدكتور أحمد علي سليمان عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، إلى إنشاء معهد عالمي لتكوين المجتهدين وتدريبهم، بالتعاون بين الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف والشؤون الدينية الدول الإسلامية، والمجامع الفقهية المنتشرة في العالم.
وطالب سليمان بتطوير منظومة التعليم الإسلامي والتدريب والتمرين والتقويم بما يسهم في إنتاج عقول متفتحة، تستثمر القوة الذاتية في المنهج الرباني؛ لضبط بوصلة الحياة المتطورة على نحو سليم.
جاء ذلك خلال المحاضرة العلمية العامة التي ألقاها الدكتور أحمد علي سليمان، الأربعاء 26 يونيه 2024م بكلية الشريعة بجامعة رادين إنتان الإسلامية الحكومية لامبونج – سومطرة بإندونيسيا، بحضور عدد من الأستاذة الدكتورة إيفا راضية نور عميدة كلية الشريعة، والدكتور يوسف بيهقي الوكيل الأول لكلية الشريعة، وعدد من السادة العلماء والعمداء والوكلاء والباحثين وطلاب الدراسات العليا وطلاب الشريعة في الجامعة.
وطالب الدكتور أحمد سليمان بتوفير الدعم اللازم، لإنشاء المعهد على أحدث نظم ومعايير الجودة العالمية، وتكوين لجنة عليا للتخطيط له، وتنفيذه، وفتح فروع إقليمية له في المستقبل، لضمان استدامة الوفاء بالمجتهدين، لتلبية حاجات العصر بفتاوى منضبطة، وضمان جريان أنهار الشريعة، وتجديد الخطاب الديني وتجديد فهم الدين الحنيف على نحو سليم.
وأوضح سليمان الحاصل على المركز الأول على مستوى الجمهورية في خدمة الفقه والدعوة الإسلامية (جائزة وقف الفجري ٢٠٢٢م – أنه بذلك نكون قد وضعنا أنفسنا والأجيال القادمة على طريق الاجتهاد العصري والتجديد المستدام.
وقال سليمان إن من مقومات عالمية الإسلام ديمومة صالحية شريعته لكل زمان ومكان ولكل حال، مؤكدًا أنه من عظيم فضل الله -تعالى- علينا، أنه اختار الإسلام ليكون رسالته للعالمين، وميزها بمقومات العالمية، والخاتِمية، والصلاحية لكل زمان ومكان ولكل حال، وبث فيها قدراتٍ ذاتيةً خلاقةً، تضمن تجددَها واستدامَة صلاحيتِها، واتساقَها مع تطورِ الحياة، وبما يحقق الرفاهيةَ، والرقيَّ الحضاري، والسعادتين في الدنيا والآخرة.
وأشار إلى أنه تواتر على حياة الناس على مدار التاريخ ملايين القوانين والمناهج التي وضعها البشر، فأخذت حظَّها من التطبيق سنواتٍ وربما عقود، بيد أنها سرعان ما ماتت كما يموت البشر والمخلوقات، وطويت صفحاتها، أما منهج الله فهو الدستور الباقي الصالح لكل زمان ومكان.
وأوضح أن القرآن والسنة النور الدائم، ولقد بث اللهُ فيهما قوةً ذاتيةً لتوليد حلول لكل عصر، ولكل مجتمع، ولكل حال، ويذخران بمعايير تدفع الفكر الإنساني إلى التأمل، لتدبير الفتوى والحلول المنضبطة التي تتسق مع الواقع المعاش، ومن ثم فصل العقلية المسلمة المعاصرة عن المفاهيم الخاطئة وعن الجمود والتشدد الذي انتهجه المتطرفون الذين تعلقوا بظاهر النص وما ترتب على ذلك من تداعيات خطيرة.
ولفت إلى أنه على الرغم مما تموج به الحياة المعاصرة من سيل التحديات والمتغيرات والمستجدات، فإن الإسلام لم ينفصل عـن واقـع الحياة ومتغيراتها؛ ولا عـن حياة الناس واهتماماتهم، ولم يتوقف عند عصر دون آخر، ولم يهتم بجانب ويهمل جوانب أخرى، بل ظلَّ الإسلام فاعلا ومؤثرًا في الحياة، وسيظل كذلك إلى أن يقوم الناس لله رب العالمين.
وعن الفكر الاجتهادي الإسلامي، من واقع نظرة تاريخية؛ قال سليمان إن المراحل التي مرَّ بها الاجتهاد عبر عصور الاسلام المختلفة، ما بين نشأة، وتطور، وتمدد، وتمكن، وهذه المراحل خلَّفت ثروة فقهية اجتهادية وتراثًا عظيمًا، قلَّ نظيره في منتوج الحضارة الإنسانية، وقد أدى دوره في الحياة وعلَّم الأجيال وما يزال.
وأضاف أنه حدث انحسارٌ اجتهادي، واجتهادٌ انتقائي، وتجميدٌ، وتقليدٌ طويل المدى في ظل سياق تاريخي ساعد على ذلك.. مؤكدا أنه في ظل مواجهة العالم الإسلامي لمجموعة من التحديات الكبرى التي واجهته ظهرت أنماطٌ ومستوياتٌ جديدة للاجتهاد، أهمها أقسامُ الفقه المقارن في كليات الشريعة والدراسات الإسلامية – والاجتهادُ الفردي – والمجامعُ الفقهية التي أدت أدوارًا في غاية الأهمية خلال فترة نشأتها وحتى الآن.
وأوضح أن هذا التطور استطاع أن يقف حائط صد ضد التنظيمات الجهادية العنيفة التي عمدت إلى فلسفة الانتقاء من التراث الاجتهادي؛ لتحقيق مخططاتهم، والتي رسمت صورة سيئة عن ديننا الحنيف، وهو منها ومنهم براء.
وشدد على أهمية الاجتهاد العصري المستدام، باعتباره ضرورة عصرية وحياتية، موضحًا أنه سيتعاظم دوره في المستقبلين (القريب، والبعيد)، على حسب حجم التحديات والمستجدات، وتتابعها وتواترها؛ من أجل استدامة التجديد المنشود الذي يفي بحاجات عصره، ويسهم في حل معضلات العصر.
وأكد على أن الفقه الإسلامي بحر عميق الأغوار، والآراء فيه متنوعة، وشاملة، ومتجددة بتجدد الزمان، وتغير المكان، وتحول الأحوال، ما يدل على مدى سَعة الفقه الإسلامي ومرونته وشموله لكل شؤون الحياة.
وأضاف أن هذا التراث العظيم يدل على ما تمتع به الفقهاء -عبر عصور التاريخ الإسلامي المختلفة- من حرية في الرأي، وطلاقة في التفكير، وعمق في الاجتهاد، الأمر الذي جعل الثقافة الإسلامية عمومًا والشريعة الإسلامية خصوصًا، تذخر بثروة تشريعية رائعة وهائلة ومبدعة، لا يوجد لها نظير في كل التشريعات قديمًا وحديثًا.
وأكد الدكتور أحمد علي سليمان أن الشريعة الإسلامية بفقهها الحيوي المرن تمتاز بالتوازن بين مقاصدها الشرعية ومصالح الخلق المرعية، وفيها من المرونة ومراعاة الأحوال، والتكيف مع الواقع، ما يجعل أحكامها صالحةً لكل زمان ومكان، وفي كل الظروف.
وقال سليمان إنه لا توجد حضارة في التاريخ انشغلت نظريًّا وتطبيقًّا بفكرة الاجتهاد والتشريع كما انشغلت الحضارة الإسلامية.. موضحًا أن منهجية الاجتهاد في الحضارة الإسلامية شملت ثراءً في عدد الفقهاء والمجتهدين والمجددين، وثراءً في الاجتهادات الفقهية بمدارسها المتعددة، وثراءً في سريان التجديد على نحو سديد.
وأضاف أن المذاهب الفقهية المشهورة وغيرها تحتوي على تراث نفيس، من الأفكار، وجهد عقلي ونقلي رصين، إذ يضم جليلَ الاجتهاد، وجميلَ المناقشات، وعمقَ الرؤية، ومنهجيةً دقيقةً في النقد والتحليل.
وبين أن هذا التراث العظيم يضم اجتهادات صيغت في عصور مضت، وبأدوات عصرها، وفق ظروفها الاجتماعية والسياسية والثقافية وسياقاتها الحياتية وقتئذ، وهنا تأتي حتمية إعمال العقل في فهم النص واستخراج مقاصده، وفهم التراث الاجتهادي، وتحليله، وغربلة ما يحتاج، وأيضا نقد ما يحتاج إلى نقد بمنهجية علمية منضبطة.
وأكد على أن بابَ الاجتهاد سيظل مفتوحًا مُشَرَّعا ومُشَرِّعا إلى يوم القيامة، وأن الله لم يختص بالعلم ولا بالفقه ولا بالاجتهاد قومًا دون قوم، ولا مكانًا دون مكان، ولا زمانًا دون زمان، كما أنه لا يمكن القول بأن مذهبًا معينًا انفرد بالصواب الكامل، ومن هنا فلابد من التحليل الدقيق والنقد، والاختيار.
ولفت عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية إلى أنه من المهم للفقيه والمجتهد أن يطلع على كتب السابقين واللاحقين، وأن يستفيد منها، وأن يرجع إلى قرارات المجامع الفقهية؛ ليتحقق لديه إلمام شامل بالقضية وكيف عولجت في سياقاتها التاريخية المختلفة، بحيث تفيده في القراءة الدقيقة للواقع المعاش، وفهم النص فهما عميقًا ودقيقًا، وحسن الاجتهاد في ظل التغيرات المتسارعة.
ورأى أن فقه التراث غني بالحلول، إلا أن هذه الأحكام لم تخل من مسحة الزمان القديم وظروفه السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ومن هنا تنبع أهمية الاجتهاد والتجديد المستدام.
ودعا سليمان إلى الاجتهاد العصري الواعي والمستدام، تخوفا من خطورة الجمود وتداعياته، ومخاطر الأخذ بظواهر النصوص التراثية، واستدعاء بعض الفتاوى القديمة -التي لها ظروفها وسياقها- لواقع متغير تمامًا، موضحًا أن هذه الأمور خلقت فهما مشوهًا وفكرًا متشددًا، نجم عنه سلوك عنيف، وإرهاب، وانتشرت بسببه جماعات العنف باسم الدين كداعش وغيرها، وقد عانى العالم من إرهابها وما يزال.
وشدد على أن الاجتهاد العصري المنضبط، هو الضمانة الأساسية لتمويل العقل الجمعي بالتجديد المستدام، وحماية البلاد والعباد من مغبة الجمود والتشدد والتطرف والإرهاب.
وأوضح أن الاجتهاد العصري المستدام، هو الاجتهاد الدقيق الذي تحققت شروطه، وضوابطه، بحيث يوافق عصره، ويرجى بقاؤه واستمراره وتطوره، دون إعاقته أو نضوبه؛ ليؤدي دوره في المعالجة والتجديد المستدام، ومن ثم سريانِ نهرِ الشريعة وتدفقه بالتجديد على نحو سلس وسديد.
وعدد سليمان أهمية الاجتهاد المستدام، فهو مصدر مهم من مصادر التشريع الإسلامي، والآلية المخصبة للعقل والعمليات العقلية، والضمانة لاستدامة أنوار التجديد، والتنوير، ويعد كذلك من دلائل وعلائم قدرات الإسلام الخلاقة على التعاطي مع متغيرات العصر والتفاعل معها واستيعابها، والشريان الحيوي المتدفق الذي يمد الفكر والفقه والواقع بالتجديد من خلال المجتهدين الذين يبذلون الوسع من أجل تنزيل أحكام الله على المستجدات بشكل قويم.
وبالجملة يعد الاجتهاد المستدام من المقومات الأساسية لدستور الإسلام، باعتباره -مع غيره- القوى المحركة للتفاعل مع تطورات الحياة، وأحد الوسائل الموصلة إلى متانة البناء العقدي والتشريعي والتجديدي للإنسان المسلم.
ونبه إلى أن الآثار المترتبة على تعطيل الاجتهاد، ومنها: تعطيل شعيرة من شعائر الإسلام، وتجميد نصوص الوحي الشريف المعصوم (القرآن والسنة) الصالحة أساسًا لكل زمان ومكان.
وقال إن تعطيل الاجتهاد وتجميد النصوص يتنافى مع عالمية الإسلام وخاتميته وصلاحيته لكل زمان ومكان، ويجعل الدين الإسلامي كأنه جاء لأناس بعينهم وهم الذين نزل فيهم الوحي، وهذا محض خطأ.
وأوضح أن من آثاره أيضا عدم التفاعل مع مستجدات العصر والقضايا المعاصرة فلكل زمان ومكان اجتهاده، وكذلك إهمال قيمة العقل التي أعلى الإسلام قيمتها، وإهدار كرامة الإنسان بجعله يدور في فلك نص لا يبرحه، وتجميد الاجتهاد يقضي على عطاءات النص المتجددة.
وأشار إلى أنه يؤدي كذلك إلى ظهور الأفكار المنحرفة باللجوء إلى ظاهر النص، والبعد عن مقاصده ومراميه، وبالتالي تفريخ الجمود والتشدد والإرهاب.
وخلص سليمان إلى أن أمتنا الإسلامية بحاجة ماسة إلى منهجية التجديد الواعي والمستدام، من خلال إحياء الاجتهاد المعاصر، -مع التركيز على الاجتهاد الجماعي في المستجدات والقضايا العامة- وعلى نحو يواكب حجم التحديات والمستجدات، وتطويرِه وفق رؤية علمية عصرية، ومنهجية أصولية، تراعي الثوابت، وظروف العصر، وتغير الزمان والأعراف، والسعي الحثيث لاستدامته؛ حتى يستديم النور المنبعث منه لحل معضلات العصر وحل مشكلاتنا الآنية والمستقبلية.
وشدد على الحاجة الماسة إلى الاستدامة في تكوين مجتهدين نابغين ونابهين وبارعين، يعكسون التوجهَ الاجتهادي، والوعيَ العميق بطبيعة الزمان والمكان والإنسان والأوطان، ويفقهون مقاصدَ الشرع الشريف على نحو دقيق، ويعوون متغيرات الواقع، وما يحاك للوطن وللأمة من أعدائها، ويستشرفون المستقبل بآليات ومنهجيات علمية منضبطة، ويمتلكون ملكاتِ الاجتهاد المعاصر ومهاراتِه وجداراته، والوعيَ الكامل بضرورة استدامته وَرُقِيّه -وتربية الأجيال المتخصصة عليه- ويمتلكون مقومات الفعالية والتأثير والمرجعية، لكي تمثل اجتهاداتهم -القائمة على معايير أصولية سليمة ودقيقة وواضحة- قناعاتِ السوادِ الأعظمِ من الناس ومن هنا جاءت الدعوة إلى إنشاء معهد عالمي لتكوين المجتهدين وتدريبهم.
ورأى أن تكوين جيل عظيم من المجتهدين المبدعين البارعين في حسن فهم النص، وحسن قراءة الواقع، وحسن تطبيق أحكام الشريعة، بامتلاكهم القدرات الفائقة على الاحتكام الدقيق إلى القواعد الفقهية المساعِدة في تنزيل الأحكام الشرعية على المستجدات بشكل دوري مستدام، وأيضا تفعيل الرخص وتيسير الشعائر والمعاملات على الناس، في ظل ما يذخر به ديننا الحنيف من المرونة، والسعة، واليسر، ورفع المشقة والحرج على المكلفين، حالما يستدعي الأمر ذلك في الأزمات والمشكلات والجوائح، لافتا إلى أن كل ذلك كفيل بحل معضلات العصر، واستمرار التجديد المستدام.
وأكد على ضرورة استثمار منابع الثراء وروافده في المنهج الإسلامي، وتربية العقل المسلم من خلال تعليم حديث يركز على التفكير الناقد والتفكير الخلاق، والتفكير الاجتهادي.
كما أكد على أهمية الإبداع في تدريب أجيال المجتهدين من خلال منهجية عصرية تركز على بناء العقل الاجتهادي ورعايته وتنميته ومن ثم إيجاد المجتهدين الذين يمتلكون القدرات الخلاقة والفائقة على التفاعل مع هذا الزخم المتسارع من المستجدات.
وأشار إلى الحاجة إلى إعداد معايير ووثائق ومؤشرات وأدلة للاجتهاد والتجديد لشباب الفقهاء، والتدريب عليها، وتجديدها وتحديثها في ضوء المستجدات، وإنشاء قواعد بيانات محدثة بالمجتهدين حول العالم؛ لسرعة التواصل معهم وتنسيق العمل المشترك، من أجل نقل خبرات الكبار إلى الشباب، والحرص على تداولها بين أهل الاجتهاد على مستوى العالم؛ لضمان الاجتهاد المنضبط والمستدام.
وحث إلى السعي لتجديد فهم الدين لدى عموم الناس، برؤى جديدة تؤكد على المعاني العظيمة التي بعث الله تعالى الرسل من أجلها ومن بينها الرحمة والعدل والتعاون والتعايش والسلام، واستثمار الآليات التقنية الحديثة في عرض هذا المضامين بشكل يتواكب مع طبيعة العصر.