لم تكن الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة فرارًا وهروبًا من التعذيب والاضهاد في المقام الأول، وإلا لما صبر النبي وصحابته السنين الكثيرة على هذا الإيذاء والاضهاد، وإنما كان الباعث الأساسي للهجرة هو تبيلغ الرسالة المحمدية ونشر تعاليم الإسلام في كل البقاع، بعد أن ضيق أهل مكة على رسول الله ومنعوه من وظيفة البلاغ والبيان للناس؛ فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَوْسِمِ ـ أي موسم الحج ـ، فَيَقُولُ: «أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي»
كان للنبي غايات وأهداف إصلاحية يريد أن يحققها على مستوى الفرد والجماعة والأمة وهذا يحتاج إلى بيئة آمنة مستقرة ليس فيها اضطرابات وتضييقات، وهذا ما وجده في المدينة.
لم تكن الهجرة مجرد انتقالٍ من مكان لمكان، وإنما كانت في الأساس تفسيرًا وتوضيحًا وتدريبًا عمليًّا على الفداء والتضحية والصبر وتحمل الصعاب وقوة الإرادة والتوكل على الله تعالى وحسن الظن فيه والأخذ بالأسباب وعدم اليأس والإحباط وإتقان التخطيط، واختيار الصحبة، وغير ذلك مما تجلى واضحا في هذه الرحلة المباركة.
التخطيط الجيد والأخذ بالأسباب من أهم مقومات النجاح .
توكل على الله في كل أمورك وخذ بالأسباب وحسن ظنك في ربك وكن على يقين أنه معك وسيرضيك، وإياك والحزن، فمن كان الله معه لا يحزن، ومن عرف الله حق المعرفة لم يحزن على شئ ولم يخف من شئ، لا تحزن إن الله معنا. والحزن وظيفة الشيطان ليبعد الإنسان عن ربه قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا}.
تتجلى معاني الصحبة في أبهى صورها في هذه الرحلة المباركة من خلال صحبة الصديق سيدنا أبي بكر لسيدنا رسول الله، فاحرص على اختيار الصاحب المناسب الذي يأخذ بيدك إلى الله، وإياك ممن يبعد عنه سبحانه، والصاحب ساحب، قال سيدي ابن عطاء الله: لا تصحب من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله. وراقب أولادك وبناتك في صحبتهم واعمل جاهدا على بُعد أصحاب السوء عنهم.
تتجلى معاني الفداء والتضحية في أبهى صورها في هذه الرحلة المباركة حيث ضحى الصحابة بأموالهم وبأعز ما يملكون في سبيل الهجرة واللحاق بسيدنا رسول الله، ومن صور ذلك ما فعله سيدنا صهيب بن عمرو رضي الله عنها، فلما أراد أن يهاجر قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فإني قد جعلت لكم مالي، فبلغ ذلك رسول الله فقال: ربح صهيب، ربح صهيب.
في هذه الرحلة المباركة تجلت محبة النبي الكبيرة في قلوب الصحابة الكرام بداية من أول الرحلة وحتى نهايتها واستقراره في المدينة، ومحبة النبي ليست في مجرد الاتباع له، بل محبته هي أساس الاتباع، فإن من تبعه ولم يحبه لم ينفعه ذلك، ولذا جعل النبي معيار الإيمان الحقيقي هو المحبة فقال: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» فأوجد في نفسك حبا وشوقا وحنينا للنبي وكن دائم الوصل به تسعد في دنياك وأخراك.