هجرةَ المصطفَى ﷺ لا ينبغِي أنْ تكونَ ماضيًا أبدًا، أو لمجردِ القصةِ، أو التسليةِ، بل ينبغِي أنْ نحولَ سيرتَهُ إلى منهجِ حياةٍ وإلى واقعٍ نحياهُ ونربِّي عليه أولادَنَا وبناتِنَا، ونحولُهَا إلى شعلةٍ توقدُ شموسَ الحياةِ ودماءٍ تتدفقُ في عروقِ الأجيالِ والمستقبل. وكيف لا؟ واللهُ لم يبعثْ محمدًا ﷺ إلَّا ليكونَ قدوةً متجددةً على مرِّ الأجيالِ والقرونِ، وإلَّا ليكونَ مثلًا أعلَى لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، فهو أسوتُنَا وقدوتُنَا ومعلّمُنَا ومرشدُنَا، فلقد كانتْ الهجرةُ دَحْرًا للفسادِ في العقائدِ، والضلالِ في الأفكارِ، كما كانتْ فتحًا جديدًا في تاريخِ الإنسانيَّةِ، ونصْرًا مُؤَزَّرًا، والهجرةُ كلُّها دروسٌ وعبرٌ. وكيف لا؟ والهجرةُ حدثٌ تاريخِيٌّ عظيمٌ. كلُّها دورسٌ وعبرٌ وعظاتٌ لمَن كان لهُ قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيدٌ، ومِن أعظمِ الدروسِ أنَّها تضحيةٌ وفداءٌ مِن أجلِ الدينِ وإعلاءِ كلمةِ لا إلهَ إلّا اللهُ، الثقةُ في وعدِ اللهِ والتوكلِ عليه سبحانهِ وتفويضِ الأمرِ إليهِ والأخذِ بالأسبابِ المشروعةِ مع عدمِ الاعتمادِ عليها إنَّما على مسببِ الأسبابِ وهو اللهُ، إتقانُ التخطيطِ وحسنُ توظيفِ الطاقاتِ، فما أحوجنَا إلى التخطيطِ في كلِّ مجالاتِ حياتِنَا، الإيثارُ والإخاءُ والمحبةُ والتعاونُ والألفةُ فقد أقبلَ المهاجرونَ إلى المدينةِ لا يملكونَ مِن أمرِ الدنيا شيئًا، فاستقبلَهُم الأنصارُ الذين تبوؤُا الدارَ، وأكرمُوهم أيَّما إكرامٍ ولم يبخلُوا عليهم بشيءٍ، فالأخوةُ الإيمانيةُ القائمةُ على أساسِ العقيدةِ الصافيةِ سببٌ في بناءِ المجتمعِ وتحصينُهُ مِن الآفاتِ والتصدعِ.
الكثيرُ مِن الناسِ يعتقدُ أنَّ الهجرةَ انتهتْ وانقضتْ بفتحِ مكةَ أو بانتقال النبيِّ لحديثِ «لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» لكن بقيتْ هجرةٌ تركِ البدعةِ إلى إحياءِ السنةِ، ومَن تركَ الحرامِ إلى إتيانِ الحلالِ، ومِن الباطلِ إلى الحقِّ، ومِن الشرِّ إلى الخيرِ، ومِن المعصيةِ إلى الطاعةِ، ومِن تركِ الذنبِ إلى التوبةِ.
هاجرْ بقلبِكَ مِن الركونِ إلى الدنيا والاطمئنانِ إليها إلى الدارِ الآخرةِ والرغبةِ فيها، واهجرْ الكسلَ وطولَ الأملِ إلى الجدِّ والاجتهادِ في طاعةِ اللهِ وخاصةً في هذه الأيامِ التي كثرتْ فيها الفتنُ والمحنُ.