دخلت الحرب في غزة شهرها العاشر، ومازالت المعضلة الرئيسة التي تقض مضاجع جنرالات إسرائيل هي كيفية إعلان نهاية الحرب بالانتصار، أو بشيء يشبه الانتصار، بحيث تستطيع وسائل الإعلام العالمية أن تتناقله من دون أن تنسحق صورة إسرائيل، خاصة في ظل ما يعرفه الجميع بأنه لا يوجد انتصار في مثل هذه النوعية من الحروب، أو كما قال وزير الخارجية الأمريكية الأسبق هنري كيسنجر: “يخسر الجيش النظامي إذا لم ينتصر، وتفوز الجماعات غير النظامية إذا لم تخسر”.
وهذه المقولة تنطبق على الحرب في غزة، فالأهداف الإسرائيلية المعلنة لم يتحقق منها شيء، بل اضطر الاحتلال عدة مرات إلى إعادة صياغة أهدافه لتتناسب مع الصعوبات التي يواجهها أمام استبسال المقاومة وصمودها.
ومنذ بداية شهر يوليو الجاري تتزايد الأحاديث الإسرائيلية عن أن الجيش قد بات (قريبا جدا) من الإعلان عن انتهاء عملياته العسكرية في رفح، وسحب قواته، والانتقال إلى (المرحلة الثالثة من الحرب)، حيث تترك القوات الإسرائيلية نمط القتال المستمر على جميع الجبهات، وتنفذ من حين إلى آخر ضربات خاطفة على مواقع بعينها، بحسب الحاجة العسكرية لذلك.
لكن إسرائيل لم تجرؤ على إدعاء أي نوع من الانتصار، فالمقاومة مازالت مستمرة في عملياتها، وما زالت قادرة على استهداف الجنود الإسرائيليين بالكمائن والقنص، وقادرة على تجنيد آلاف المتطوعين وتدريبهم، في حين تعاني إسرائيل اضطرابا سياسيا غير مسبوق، وتجتاح المظاهرات أنحاء العالم تنديدا بحرب الإبادة على الأبرياء، وتصدر محكمة العدل الدولية قرارا بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وعدم شرعية الاحتلال، وهو القرار الذي وصف بأنه “يتجاوز أسوأ مخاوف إسرائيل”.
لكن كيف أمكن للمقاومة، الأقل في العدد والعدة، أن تصل بالمعركة إلى هذا المستوى وهي تقاتل في ظل حصار خانق، لا يحرمها المدد والسلاح فحسب، بل الماء والطعام والدواء والسكن؟ وكيف أمكن للمقاومة أن تستمر في عملياتها أمام جيش بهذا الحجم، وأن تستنزفه بضربات صغيرة متتالية، تتراكم مع الزمن لتترك ضررا ثقيلا لا يمكن جبره؟
هنا بالتحديد يتجه الحديث إلى العقيدة الراسخة التي تتسلح بها المقاومة، فمعارك التحرر الوطني لا تقاس بالإمكانات العسكرية، مع أنها مهمة، ولا تحتسب نتائجها بتخريب المنشآت والانتقام من المدنيين، وإنما تقاس بما يملكه المقاتل من يقين وإرادة، وحاضنة شعبية واثقة به، وبذلك تتجدد المقاومة وتبدع وتنطلق.
ولقد تطور فكر المقاومة الفلسطينية نتيجة لتراكم الخبرات، وأوضح سمات هذا التطور الاتجاه إلى الاعتماد على الذات في خوض وإدارة المعارك دون انتظار لدعم خارجي، وهو ما خلق لدى المقاوم الفلسطيني ثقة بنفسه وبقدراته، كما تطورت ثقافة المجتمع الفلسطيني بشكل مواز، من فكر الهروب إلى فكر المواجهة والتشبث بالأرض، وتحمل التبعات والتضحيات.
ومنذ بداية الحرب بنت إسرائيل استراتيجيتهاعلى تكثيف الضغط العسكري المتواصل لإجبار المقاومة على الاستسلام، فأطلقت سلاح الطيران بأكمله في سماء غزة ليمطرها بالقنابل والصواريخ على مدار الساعة، وعندما بدأت الحرب البرية زجت بأفضل كتائب سلاح المدرعات، المكونة من دبابات (ميركافا 4) المرعبة، التي تعد من أقوى الدبابات في العالم وأكثرها تحصينا، وكان الرئيس الأمريكي هو من يرأس بنفسه مجلس الحرب الإسرائيلي في تل أبيب، وفتح مخازنه لتزويد إسرائيل بجسور جوية وبحرية من السلاح والعتاد، وبنفس القدر كان الدعم الأوروبي بلا حدود، لا يقف خلف إسرائيل فحسب، بل يقف إلى جوارها، وأحيانا أمامها.
وفي المقابل كانت المقاومة تقاتل وحيدة في أنفاقها ومازالت، لا تستند إلا إلى عقيدتها، التي استطاعت بها أن تغير موازين المعركة، وتدمر صورة الجيش الإسرائيلي، وتربك كل مستوياته، حتى صار وزير الدفاع ورئيس الأركان من أشد المتلهفين على إنجاز صفقة إيقاف الحرب وتبادل الأسرى.
وقد دأبت الصحف الإسرائيلية على نشر دراسات حول عقيدة المقاتل الفلسطيني، والتركيز على التريبة الدينية الصارمة لأبناء غزة التي تسبق التربية العسكرية، وتعتمد على دروس في المساجد كما كان يفعل المسلمون الأوائل، “فمقاتل حماس يستسقي أيديولوجيته من تعبئة فكرية تقوم على دراسة تاريخ الإسلام والمعارك والبطولات والفتوحات الإسلامية، ويعتقد أنه عندما يموت يذهب مباشرة إلى الجنة، حسبما يقول له القرآن الذي يحفظه عن ظهر قلب، إنها أيديولوجية مبنية على التجرد من الشهوات والسمو الروحي واحتقار العدو مهما بلغت قوته، وهم يقتدون في ذلك بنبيهم الذي حاربنا منذ 14 قرنا، فهم يقاتلون بعزة واستعلاء نفسي، معتقدين أنهم يخدمون دينهم وأمتهم”.
وبهذه العقيدة استطاعت المقاومة أن تهزم الميركافا المرعبة، حتى اعترف جيش الاحتلال علنا بنقص في دباباته بعد عطب أعداد كثيرة منها بسبب ضربات المقاومة، وعدم كفاءة أعداد أخرى تم تعطيلها فلا تصلح للحرب ولا للتدريب.
وقد توقف الكاتب الإسرائيلي إيال حنانيا في مقال خطير له عند هذه العقيدة قائلا: “عندما أرى مقاتلا يندفع صوب (الميركافا 4) التي تشبه وحشا فولاذيا أسطوريا، حاملا عبوته ليفجرها دون أدنى تردد أو خوف أرتعب خوفا، كيف لهؤلاء لو امتلكوا أسلحة أقوى، ولو اقتدى بهم شباب المسلمين في الدول العربية والإسلامية؟ إن أيديولوجية الجهاد ستكون الخطر الأكبر على وجود دولة إسرائيل، وعلينا أن نأخذ الدروس والعبر، وأن تكون حربنا ضد حماس حرب اجتثاث وحشية، إما نحن أو هم، لأننا إن تهاونا اليوم فسنراهم خلال العقد القادم على أبواب تل أبيب يكبرون فوق رؤوسنا، وعندها ستكون النهاية لنا ولدولتنا ولحلمنا في إسرائيل الكبرى”.
أما نحن فيجب أن نحتاط كثيرا عندما نرى تركيز الغرب على تغييرعقيدة شبابنا عبر تغيير مناهجنا الدراسية، وشيطنة التعليم الديني وحصار المساجد وتشويه القرآن والفتوحات وأبطالنا التاريخيين، سواء بضغوط مباشرة، أو من خلال وكلاء مستأجرين، فالصراع ممتد ولن ينتهي حتى يأذن الله بالنصر المبين.