مازالت نتائج طوفان الأقصى تتفاعل داخل إسرائيل، ومن هذه التتائج سلسلة الاستقالات الأخيرة لقادة الجيش والشرطة، التي أطلق عليها الإعلام الإسرائيلي (عاصفة استقالات الجنرالات)، والتي شملت العميد يوسي شاريئيل قائد الوحدة 8200 في شعبة الاستخبارات بالجيش، واللواء عوزي ليفي قائد الشرطة بالضفة الغربية المحتلة، الذي يعد ثالث قيادة في الشرطة تقدم استقالتها خلال شهر واحد، بعد قائد وحدة التحقيقات، وقائد لواء الشمال، ثم كانت الطامة الكبرى بتسريب أنباء عن تقديم الجنرال هرتسي هاليفي رئيس الأركان ونائبه الجنرال أمير برعام استقالتيهما في ديسمبر المقبل.
وخلال الأشهر الماضية قدم عدد من المسئولين العسكريين الإسرائيليين استقالاتهم على خلفية اتهامات بالإخفاق في إدارة الحرب على غزة، من أبرزهم الجنرال آفي روزنفيلد قائد فرقة غزة، الذي اعترف بفشله في مهمة حياته، وكذلك رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) الجنرال أهارون هاليفا، الذي أقر بأن شعبته لم تقم بالمهمة التي اؤتمنت عليها، وموشيك أفيف رئيس المنظومة الدعائية لإسرائيل (هسبرا)، والجنرال يورام حامو المسئول عن رسم الشئون الإستراتيجية في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، الذي استقال اعتراضا على عدم اتخاذ رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو قرارات بشأن (اليوم التالي) للحرب في غزة.
وفي مطلع الشهر الجاري أعلن قائد القوات البرية اللواء تامير ياداي استقالته من منصبه (لأسباب شخصية)، ووصفت الصحف الإسرائيلية آنذاك هذه الاستقالة بـ (الهزة الأرضية)، وأشارت إلى أن “أسباب استقالة قيادات الجيش لا تقتصر على الفشل في تحقيق أهداف الحرب، أو منع هجوم طوفان الأقصى، بل تتعدى ذلك إلى خلافات على المناصب داخل هيئة الأركان”.
وتؤكد هذه الاستقالات بوضوح الفشل الاستخباراتي والأمني والعملياتي للجيش الإسرائيلي في مواجهة المقاومة الفلسطينية قبل السابع من أكتوبر وبعده، خصوصا أن أحدا من هؤلاء الجنرالات لم يتهيب من الاعتراف علنا بفشله وتقصيره، وبأنه لم يكن على مستوى المسئولية، الأمر الذي أثار عاصفة من الانتقادات الموجهة بجرأة غير مسبوقة إلى المسئولين السياسيين والعسكريين والأمنيين، بسبب الإخفاقات الجسيمة التي ظهرت في أدائهم لمهامهم.
وتنشر الصحف الإسرائيلية تقارير عديدة عن الانتقادات الموجهة إلي الجيش، الذي كان يمثل من قبل (قدس الأقداس) ولا يمسه أحد بسوء، ويحظى بامتيازات مادية ومعنوية عالية، معلنة وغير معلنة، وتشير هذه التقارير إلى أن الإسرائيليين أصبحوا يتساءلون: “لماذا نستمر في الإنفاق ببذخ على الجيش الذي حين احتجناه لم نجده، ولم يقم بمهمته الأسمى في حمايتنا؟”.
وقد ترافقت استقالات الجنرالات مع خلافات حادة بين المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل، لاسيما بين رئيس الحكومة نتنياهو ووزراء أقصى اليمين المتطرف من جهة، وقيادة الجيش ووزير الدفاع يوآف جالانت من جهة ثانية، وعلى مدى أشهر الحرب توالت اتهامات المؤسسة العسكرية لنتنياهو بالإخفاق في وضع أهداف للحرب قابلة للتحقيق، وإهدار ما أسماه رئيس الأركان هاليفي (النجاحات العسكرية التكتيكية في ظل غياب استراتيجية سياسية قادرة على استثمار هذه النجاحات).
ومع توسع العمليات العسكرية، وإدراك الجيش غياب المعلومات الاستخباراتية التى تمكنه من العمل ميدانيا بنجاح أكبر وتضحيات أقل، تصاعدت الخلافات وتشعبت، ثم خرجت للعلن مع بدء التحقيقات داخل المؤسسة العسكرية حول إخفاقات السابع من أكتوبر، حيث تحملت القيادات العسكرية والاستخباراتية المسئولية واستقالت، بينما بقي نتنياهو وحده لم يفكر في الاستقالة، وما زال يصر على استمرار الحرب لضمان تماسك حكومته واحتفاظه بمنصبه.
وبلغت الخلافات أوجها بإصرار نتنياهو على بقاء الجيش داخل غزة، وهو شرط لايزال يعطل مفاوضات صفقة إنهاء الحرب وتبادل الأسرى، في حين يرى الجيش أن بقاء جنوده في مواقع تمركز دائمة داخل القطاع سيحول الوحدات المقاتلة إلى أهداف سهلة لفصائل المقاومة، كما أن السيطرة على محورى فيلادلفيا ونتساريم لا تمثل أهمية استراتيجية، والانسحاب منهما لايشكل خطرا على أمن إسرائيل، على النحو الذي يروج له نتنياهو لنسف الصفقة من أساسها.
ويتوازى ذلك مع ما تشهده إسرائيل من خلافات عنيفة بين إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي وجهاز الشرطة التابع له، حيث تتهم قيادات الجهاز بن غفير بتعزيز سيطرته الكاملة على الشرطة من خلال التعيينات الجديدة التي جاءت بديلة للقيادات المستقيلة، والتي حولت الشرطة إلى ميليشيا خاصة، ووظفتها لضرب معارضي الحكومة، خصوصا أولئك الذين يتظاهرون للمطالبة بإبرام صفقة تبادل الأسرى وإجراء انتخابات مبكرة، في حين يسخر بن غفير من المعارضين له، الداعين إلى عدم تدخله المباشر في عمل جهاز الشرطة، ويتهم قائد الشرطة كوبي شيتاي والمستشارة القضائية للحكومة بالتآمر عليه، والرغبة في تحويله إلى وزير أشبه بـ (مزهرية).
وتعليقا على عاصفة الاستقالات والصراعات والتداعيات المتلاحقة يقول موقع (والا) العبري: “إن إسرائيل تخوض حربا وجودية، ليس على الجبهة الخارجية فحسب، بل على الجبهة الداخلية أيضا، بعد أن بات بعض السياسيين، وبينهم وزراء بارزون، يعملون على تفكيكها، وإلقائها في براثن أزمة دستورية”.
ليس معنى هذا بالطبع أن إسرائيل سوف تتلاشى غدا أو بعد غد، وليس معناه أيضا التهوين من الخطر الوجودي لها على بلادنا ومقدساتنا، كلا، فإسرائيل مشروع استعماري ديني غربي، مزروع في منطقتنا ليستمر ويتمدد، ومع ذلك فها هي الآن تعاني كثرة الثغرات والثقوب، ومن الممكن ـ بل الواجب ـ مقاومة هذا المشروع وعرقلته وهزيمته.
وقد اعترف الدبلوماسي الأمريكي (شاس فريمان) سفير الولايات المتحدة السابق في السعودية بأن الأيديولوجية الصهيونية توجب على إسرائيل التوسع خارج فلسطين لتهيمن على دول أخرى بالشرق الأوسط، وحذر ـ في فيديو مازال متاحا على (يوتيوب) ـ من أن هدف الصهاينة ليس فقط تفريغ فلسطين من الفلسطينيين، وإنما السيطرة تدريجيا على مساحات أكبر بالمنطقة لاستكمال بناء إسرائيل الكبرى.
هذه الحقيقة يجب أن تظل حاضرة في وعينا، فلا نغفل عنها.