إعداد الدكتور سالم دخل الله سليمان عبد الحميد
الباحث القانونى
مبدأ الشرعية الجنائية هو أحد أهم القواعد في القانون بشكل عام والقانون الجنائي بشكل خاص حيثُ أن الأخيـر عقوبة مخالفته تنصب على حرية الأفراد وحياتهم في بعض الأحيان ، ويقصد بمبدأ الشرعية الجنائية أن يتم النص مسبقاً علـــــــى الفعل وعدم الفعل الذي يعد جريمة وكذلك العقوبة المقررة له ، وأن يترك الأمر عبثاً تتلاعب به الأهواء فيتم تجريم الأفعال بحسب الحاجة في وقت ما وتتم إباحة ذات الأفعال في وقت آخر كذلك تغليظ العقوبة على فعل ما وتخفيفها حيناً آخر على ذات الفعل.
فبمقتضى هذا المبدأ يجب أن يكون أمام القاضي نصــــاً مكتوباً بالأفعال المجرمة و عقوبتها لا أن يكون حراً في أن يجرم أو يبيح أو أن يشدد العقوبة أو يخففها فلا يعلم الفرد ما هو مباح وما هو مجرم ، وما العقوبة التي تنتظره غليظة كانت أم غير ذلك .
وقد يحلو لبعض شراح القانون إلصاق هذا المبدأ ببكاريا والحق أن هذا المبدأ أستحدثه التشريع الإسلامي قبــــــل ما يربو عن أربعة عشر قرناً من الزمان وقبل أكثر من ألف ومائة عام من ميلاد بكاريا حتى كما سيأتي بيانه الآن .
ودليل أستحداث التشريع الإسلامي لمبدأ الشرعية الجنائية في القرآن الكريم في أكثر من أيه فيقول الله سبحانه وتعالى فى سورة القصص ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾
وفى سورة الإسراء﴿ مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾
وفى سورة النساء﴿ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾
وفى سورة الأنعام﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ۚ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ ۚ قُلْ لَا أَشْهَدُ ۚ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾
وفى سورة الأنفال﴿ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ ﴾
وفى سورة البقرة ﴿ لَا يُكَلّـِفُ اللَّهُ نَفْسًـا إِلَّا وُسْعَهَـا ۚ لَهَـا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَـا أَوْ أَخْطَأْنَــا ۚ رَبَّنَــا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِـن قَبْلِنَـا ۚ رَبَّنَـا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِـهِ ۖ وَاعْـفُ عَنَّـا وَاغْـفـِرْ لَنَـا وَارْحَمْنَــا ۚ أَنتَ مَوْلَانَــا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾
وبعد قراءة الآيات الكريمات يتضح لنا أن مبدأ الشرعية الجنائية أستحدثه التشريــــــــــع الإسلامي من عدم حتى قبل مولد بكاريا المنسوب إليه زوراً وبهتاناً هذا المبدأ بأكثر من ألف ومائة عام .
ولما كان التشريع الإسلامي قد أستحدث المبدأ من عـــدم ‘ وطبقه تطبيقاً دقيقاً ومعجزاً ولما كانت الجرائم مقسمة في التشريع الإسلامي إلى ثلاثة أقســام (حدود – قصاص ودية – تعزير) فكان التشريع الإسلامي يطبق المبدأ على نحوه المعجز على الأقسام الثلاثة رغم تباينها وأختلافها الشديد كل قسم على حده وبنحو يختلف عن الآخر وهو هو ذات المبدأ.
وكما أن الحدود مصطلح يطلق على نوع من الجرائم والعقـــــوبات المقررة لها على حد سواء ولقد ورد النص على جرائم الحدود وعقوباتها فى الــقـرآن الكريم وسنة الرسول صل الله عليه وسلم على سبيل الحصـــر ,ورحمته سبحانه وتعالى تتجلى هنا وعظمة شريعته سبحانــــه وتعالى تبزغ بزوغاً لا خفوت له فكون الحدود هي أقـــــوى العقوبات وتتربع على قمة هــــرم العقوبــــات في التشـــــريع الإسلامي فلقد أوردها ربنا عز وجل على سبيل الحصر لكي لا تستغل في التوسع للنيل من حقــوق الأفراد وحرياتهم بل وحقهم في الحياة بل والأكثر من ذلـــك فإن رحمته سبحانه وتعالى ضيقت مجال تنفيذ الحدود أيمــــــا تضييق كما في رواية أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صل الله عليه وسلم أدرءوا الحدود عن المسلـــمين ما أستطعتم ، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله ، فإن الإمــــام أن يخطئ فى العفو خير من أن يخطئ فى العقوبة .
والمعنى أنه إذا شاب الحد شبهه يحظر إقامته أو إتمامه إن شرع فيه ما يؤكد وبشكل قاطع لا ريب فيه أن التشـــريع الإسلامي لا يتعطش لإقامة الحدود ، ولا يتصيد للناس التهم ، ولا يلتمس أوهن الأسباب ليجعل من العقوبة سيفاً مسلطاً علــى رقـــــاب الناس ، يهدد البرئ والمذنب كذلك فإن تنفيذ الحد له ضوابط وشروط وضمانات تجعل من التشريع الإسلامي أسمى تشريع عرفته الأرض ، فلقـد جعل التشريع الإسلامي من إقامة الحد أصغر وأضيق مسـرح لتنفيذ العقوبات في التاريخ .
فبين الإتهام وتنفيذ العقوبة – ما لم يصل إليه البشر قبــــل الإسلام – من إجراءات جنائــية غاية في الرقى والعدل وأحترام لحقوق الإنسان – ولو كان غير مسلم – من هذه الإجراءات 🙁 نظـــام الاتهام , التحقيق , القضاء , تنفيــذ الأحكـــام ) كل هذه الإجــــراءات للإســــلام فيهـــا الكلمــة الأولى والعليا.
لقد طبق التشريع الإسلامي مبدأ الشرعية الجنائية في الحدود تطبيقاً دقيقاً بالنص حصراً على جرائم الحدود وعقوباتــــها بنحو لا يدع مجالاً للاجتهاد ولا يمكن القياس عليها للتوسع فيها ، وجرائم الحدود هي : ( الحرابـة ، الزنا ، السرقة ، الردة ، البغي ، الشرب ، القذف ) ويتم عرضها على النحو التالــى :
- حد الحرابة :
يقول الله سبحانه وتعالى فى سورة المائدة ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾
فالآية تجرم الحرابة وتبين أركانها وعقوبتها بنحو قطعى وجازم .
- حد الزنا :
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الإسراء ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾
وكذلك قوله سبحانه وتعالى في سورةالنور﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
وقوله صل الله عليه وسلم ( خذوا عنى فقد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائه وتغريب عام , والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ) يتضح من هذه النصوص أن التشريع الإسلامي حدد بشكل غاية في الدقة فعل الزنا وبين أركانه وعقوبته بشكل قاطع وجازم .
- حد السرقة :
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ وهذه الآية قد حرمت السرقة وحددت الفعل وبينت عقوبتها بشكل قاطع وجازم.
- حد الردة :
يقول الله سبحانه وتعالــــى في ســــورة آل عمـــــران ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ وقولـــــــه سبحانه وتعالى في سورة البقرة﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِوَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗوَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْعَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَاوَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
ويقول صل الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) وقوله صل الله عليه وسلم ( عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، إلا بإحدى ثلاث : الثيّب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) وبهذا النحو ورد تجريم الردة وبيان الفعل المجرم والعقوبة المرصودة له بشكــــــــل قطعي لا اجتهاد فيه.
- حد البغي :
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الحجرات ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖفَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُـوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين﴾
ويقول الرسول محمد صل الله عليه وسلم ( من أتاكـــــــم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)
وكذلك قوله صل الله عليه وسلم(إنه ستكون هنّات و هنّات فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسّيف كائنا من كان )
والنصوص السابقة تجرم البغي وتبين أركانــــه وعقوباته بنحو قاطع .
- حد القذف :
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة النور﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾
والآية السابقة تحرم القذف وتبين أركانــــه وعقوبتــــه بشكل جازم .
- حد الشرب :
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة المــــــــــــائدة﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَـــانِ فَاجْتَنِبُـــوهُ لَعَلَّكــــــــُمْ تُفْلِحُونَ ﴾
ويقول الرسول صل الله عليه وسلم (كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْـــــــــرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ.)
وورد في صحيح مسلم في غير موضع أن النبي صــــل الله عليه وسلم جلد في الخمر .
ومما سبق يتضح أن التشريع الإسلامي قد أعمــــل مبدأ الشرعية الجنائية حرفاً ونصاً في جرائم الحـــــدود , منــــذ ما يزيد عن 1400عام , بل إن لفظ (الحدود) يحمـــل معنى ومضمون المبدأ فهو يعنى الجرائم التي فرضت لها عقوبات محددة تجب حقاً لله تعالى وهذا – كما سبق وقلنا – قبل مــولد بكاريــــا ” المنشئ المزيف “للمبدأ بــ1100عام ، كما نجد أن الشرعية الجنائية في القصاص والدية أن التصــدي لمــاهيــة القصــاص والديـــة واجب الذي لا يتم الواجب إلا به .
فيقصد بالقصاص المماثلة بين الجريمة والعقوبــــة أي من قتل يقتل , ومن جرح يجرح , ومن قطع يقطع ، وهــى نوعان قصاص في النفس وقصاص فيما دون النفس.
ويقصد بالدية المال الواجب بجناية على الحر في النفـس أو فيما دونها ولا تكون في الجرائم العمدية.
لقد طبق التشريع الإسلامي مبدأ الشرعية الجنائيــة في القصاص والدية تطبيقاً دقيقاً , فلم يترك الأمر للقاضي في أمر التجريم ولا حتــى فى قدر العقوبة , بل صــاغ نصوصــاً للتجريــم مبينــاً بهـا العقوبات المقررة سلفاً لتكون أمام القاضي وهو يقضــــى .
ومـن نافل القول أن التشريع الإسلامي سبق أي تشريع في إنشاء و إقـرار مبـدأ الشرعية الجنائية ,فكان له السبـق في هـذا ,ومـا كان تطبيـق المبدأ فيما بعد إلا اقتباساً من التشريـع الإسلامي.
كما نوضح إليكم نصوص التشريع الإسلامي في القصاص والدية :
جرائم القصاص هي : القتل العمد ، وإتلاف الأطراف عمداً ، والجرح العمد . ، وجرائم الدية هي جرائم القصاص إذا تم العفو عن القصاص أو أمتنع القصاص لسبب شرعي ، والقتل شبه العمد ، والقتل الخطأ ، وإتلاف الأطراف خطأ ، والجرح الخطأ .
أ ــ جريمة القتل العمد يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الإسراء﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۗوَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًـا فَقَـدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِيالْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ﴾
وقوله تعالى في سورة﴿يـا أَيُّـهَـا الَّذِيـنَ ءَامَــنـــُواْ كُتِـــبَ عَـلـَيْـكُــمُ الْقِصَـاصُ فِـي الْقَتْلَـى الْحُـــرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنثَى بِالأنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِـنْ أَخِيـهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَـانٍ ذَلِكَ تَخْـفِيـفٌ مِّــن رَّبِّكُـمْ وَرَحْمَـةٌ فَمَـنِ اعْتَـدَى بَعْـدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أليـم* ولكـم فـي القصـاص حياةٌ يا أولي الألباب لعلّكم تتقون﴾
وقوله سبحانه وتعالى فى سورة المائدة﴿وَكَــتَــبْــنَــــا عَـلَــيْهِــــمْ فِيهَــــا أَنَّ النَّـفْـــسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بــــِالْأُذُنِ وَالـسِّـنَّ بــِالـسِّـنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَـنْ تَصَدَّقَ بِــــهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ۚ وَمَنْ لَــمْ يَحْكُـمْ بِمَــا أَنْــزَلَ اللــَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم(مَـنِ اعْتَبَـطَ مُؤْمِنًـا بقُتِلَ , فَهُوَقَوَدٌ بِهِ ، إِلا أَنْ يَرْضَى وَلِيُّ الْمَقْتُولِ) وقوله صلى الله عليه وسلم (مَـنْ قُتِـلَ لَـهُ قَتِيـلٌ فَأَهْلُـهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا فَلَهُمُ الْعَقْلُ ، وَإِنْ أَحَبُّوا فَلَهُمُ الْقَوَدُ )
وقوله صلى الله عليه وسلم ( فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ ، وَفِي الأَنْــفِ إِذَا أُوعِيَ جَدْعًا مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ ، وَفِي الْيَدِ خَمْسُونَ مِنَ الإِبِلِ ، وَفِي الرِّجْلِ خَمْسُـونَ مِنَ الإِبِلِ ، وَفِي الْعَيْنِ خَمْسُونَ مِنَ الإِبِلِ)
وهـذه النصـوص تحـرم وتجـرم القتـل العمد وتبين عقوبته, وهى القصاص إلا إذا تـم العفـو من قبـل ولـى الـدم , فـي هـذه الحالة تكون العقوبة هي الدية , مائة من الإبل.
ب – جريمـة إتلاف الأطـراف عـمـداً والجرح العمد يقول الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
وقوله سبحانه وتعالى فى سورة المائدة﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيْهَا أَنَّ النَّفْـسَ بِالنَّــفْـــسِ وَالْــعَــيْنَ بِالْــعَــيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّـنَّ بِالسِّـنِّ وَالْجُـــرُوْحَ قِصَــاصٌ فَمَــنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَنْ لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُوْنَ﴾
وقوله سبحانه وتعالى فى سورة البقرة ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰعَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ وقوله سبحانه وتعالى في سورة النحل ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ ﴾ وفى الآيات السابقة تجــريم لإتـلاف الأطراف والجــــرح العمديين ,وكذلك العـقـوبة المقررة لهما وهى القصاص عـلــى النحو المبين بالسنة النبوية المشرفة.
ج – جريمة القتل شبه العمد يقول عليه صلوات الله وسلم ( أَلا وَإِنَّ قَتِيلَ خَطَأِ الْعَمْدِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا وَالْحَجَرِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلادُهَا) وبهذا الحديث الشريف يجرم القتل شبه العمد وتبين عقوبته وهى الدية.
د – جريمة القتل الخطأ يقول الله عز وجل سبحانه وتعالى في سورة النساء.
﴿وَمَاكَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ۚ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُرَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْكَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ۖفَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْن تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾
ويقول الرسول صل الله عليه وسلم(وفى دية الخطأ عشرون حقه , وعشرون جذعة , وعشرون بنت مخاض , وعشرون بنت لبون , وعشرون بني مخاض) والآية الكريمة والحديث الشريف يجرمان القتل الخطأ ويبينان عقوبته وهى الدية مع بيان مقدارها وأوصافها.
هـ – جريمة إتلاف الأطراف والجرح خطأ أوردها رسول الله صل الله عليه وسلم وحدد عقوبتها على أساس أن ما كان في الجسم منه عضو واحد كالأنف والذكر واللسان ففيه الدية كاملة , وما كان في الجسم منه عضوان ففيه نصف الدية , في قوله صل الله عليه وسلم (في الأنف الدية) وكذلك (وفى اللسان الدية , وفى
الذكر الدية) , (في الصلب الدية) , (في اليدين الدية , وفى الرجلين الدية) , (في الأنثيين الدية) , (في الأذنين الدية) , (في العين خمسون من الإبل) , (في السن خمس من الإبل) ,
وأوجب الرسول صل الله عليه وسلم الدية في إذهاب المعاني كالسمع والبصر والعقل .
أما الجراح فقد حدد صل الله عليه وسلم عقوبة بعضها دون بعض , فجعل أرش الموضحة خمساً من الإبل , وأرش الهاشمة عشراً من الإبل , وفى كل جرح يصل الجوف ثلث الدية .
والقاعدة العامة في الشريعة : أن كــل تلـف أو جـرح لـــم يحدد له الرسول صل الله عليه وسلم دية أو أرشاً فيه حكومـة محددة وغير متروكة للتقدير المطلق بحيث لا يمكن أن تصل الحكومة إلى الديـة أو الأرش المقـرر للتلـف أو الجرح الــذي يليه في الشدة (وهذه القاعدة مجمع عليها من الأمة), وبالتالي فالعقوبة في هذه الجريمة محددة تحديداً لا شك فيه بنصـوص صريحة في المصدر الثاني مـن مصادر التشريـع الإسلامي (السنة النبوية المشرفة) , وبعضــاً منهـا عن طريق المصـدر الرابع (الإجماع) بتحديدها السابق ذكره.
والدية في قطع الأطراف والجراح العمدية هي نفس الدية الواجبة في الخطأ ولكنهما يختلفان فى الوصف ، فدية العمد مغلظة ، ودية الخطأ مخففة.
وبالتالي فالعقوبة في إتلاف الأطراف محددة بشكل قاطع بنصوص صريحة ، وفى حالات قليله بإجماع لاشك فيه ، والإجماع مصدر من مصادر التشريع الإسلامي .
ومما سبق يتبين أن جرائم القصاص والدية منصوص عليها وعلى عقوبتها ، وأصبح من نافل القول التقرير بأن التشريع الإسلامي ، وقد أعمل مبدأ الشرعية الجنائية في جرائم القصاص والدية إعمالاً دقيقاً وعلى ذات غرار مسلكه بشأن جرائم الحدود تقريباً ، والنصوص التي جاءت منظمة لهذه الطائفة من الجرائم هي اصدق شاهد وخير دليل .
والمقصود بجرائم التعزير كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة.
وخلق التشريع الإسلامي لقسم جرائم التعزير وتقنينه هو الإعجاز بعينه ، إذ لم يقف التشريع الإسلامي عند حد أن أوجد حلاً لمشكلة عدم وجود نصوص للتجريم والعقاب ,حيث وضع التشريع الإسلامي الحل المعجز والإعجاز المتحدى به وهو النصوص الثابتة , كالنصوص المعالجة لجرائم الحدود والقصاص والدية , ولكن ذهب التشريع الإسلامي إلى أبعد من ذلك إلى حيث لا يتخيله بشر, بأن قنن حلا لمشكلة قد تطل برأسها ــ وبالفعل أطلت لاحقاً ــ وهى المشكلة التي لم تفطن لها البشرية إلا بعد أن قضت ردحاً عظيماً من الزمن في غياب النصوص ومن ثم القوانين , وردحاً مثله حين سطرت النصوص , فلاحت على الأفق إشكالية جمود النصوص وصيرورتها غيرملائمة بمرور الزمن ,وكذلك إفلات المجرمين حيث إن لم ينطبق النص على جرمه والحالة جامدة هكذا فالمجرم حر وطليق ,وهذا الأمر لا يكون في التشريع الإسلامي في ظل جرائم التعزير حيث إن لم ينطبق النص على فعل الجاني ولم يدخل في دائرة الحدود أو القصاص والدية كان لولي الأمر أن يقتضى حق الدولة في العقاب من خلال التعزير.
إذ بهذا التقسيم المذهل حل المعضلة التي حيرت الفلاسفة وفقهاء القانون ولو رجعوا للتشريع للإسلامي لوجدوا فيه ضالتهم .
فبعد أن ضاقت الأنظمة الوضعية ذرعا بالتقيد بالمعنى اللفظي والحرفي لمبدأ الشرعية بسبب ما أدى إليه من إفلات الكثير من المجرمين من العقاب , نتيجة لمحاصرة القاضي بما يستلزمه من قاعدة عدم اللجوء إلى القياس في التجريم والتزام قاعدة التفسير الضيق للنصوص الجنائية, فقد توصلت هذه الأنظمة إلى وجوب صياغة نصوص التجريم صياغة مرنة تسمح للقاضي بإعمالها على كل ما اتسعت له علة التجريم وحكمته ولو لم تشمله ألفاظ النص وحرفية عباراته وبعد هذه الحقيقة الثابتة لمغزى ومفهوم المبدأ الذي تبنته القوانين الوضعية بعد معاناة وشقاء , أقول هنا بأن هذا هو المفهوم الذي أقرته الشريعة السمحاء لمبدأ الشرعية الجنائية فى مجال التعزير منذ نيف وأربعة عشر قرناً من الزمان(1) وكان نتيجة للمآخذ التي أسفر عنها التطبيق الحرفي لمبدأ الشرعية الجنائية أن ألغته بعض القوانين مثل القانون الروسي سنة1926 ، والقانون الالمانى سنة 1935 ، والقانون الدنمركي سنة 1930
كذلك يضم التعزير بين طياته مبدأ لم تتوصل إليه البشرية إلا مؤخراً هو مبدأ تفريد العقوبة والذي يعنى عدم تطبيق العقوبة بشكل موحد دون النظر لشخص الجاني أو لظرف الجريمة وملابساتها .
قد يظن للوهلة الأولى نظراً للمرونة التي تتسم بها جرائم التعزير , أن مبدأ الشرعية الجنائية غير متوفر في جرائم التعزير , غير أن المبدأ حقيقةً مفعل ولكنه على نحو مخالف لما هو عليه في جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية ولكنه في النهاية مطبق فالقاضي غير مطلق اليدين على الإطلاق لا تجريماً ولا عقاباً كما يتوهم البعض, إذ لا يملك سلطة تقديرية في جرائم التعزير لا من حيث التجريم ولا العقاب إلا في القدر اليسير.
الأمر الذي يحق معه القول أن جرائم التعزير خاضعة لمبدأ الشرعية الجنائية ,حيث أن غالبية جرائم التعزير ورد النص على تحريمها وحتى ما لم يتم النص عليه فإن ولي الأمر أو القاضي أو من يتولى أمر التشريع مقيد بقيود عدة سنذكرها بعد قليل عند الحديث عن التجريم .
كذلك العقوبة لم تترك لهوى القاضي أو ولى الأمر، بل إن التشريع الإسلامي يكاد يكون قد حدد عقوبات التعزير ,ومن ثم فلا يكون للقاضي إلا أن يحكم بأي من العقوبات المحددة سلطته التقديرية فقط في الإختيار من بين تلك العقوبات ونوضح ذلك عن طريق :
أولاً : التجريم
كما سبق أن ذكرنا أن القاضي ليس في حل في أن يجرم ما يشاء بينما ثمة قيوداً تغل يده عن هذا منها :-
أ – يتقيد القاضي في تجريمه لفعل ما بتحقيق مصلحه للعباد ,والمصالح التي يحميها التشريع الإسلامي هي ( الدين ، والنفس ، والمال ، والعقل ، والنسل ) . فأي يفعل يتعرض لأي من تلك المصالح يعد جريمة تستوجب العقاب ، والفعل الذي لا ينطوي على مساس لأي منها لا يعد جريمة ومن ثم لا يعاقب عليه.
ب – كذلك يتقيد القاضي في أمر التجريم بألا يجرم مباحاً أو يبيح حراماً لقوله سبحانه وتعالى ﴿يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم فى شئ فردوه الى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر﴾
ج – القاضي لا يملك تجريم كل الأفعال الداخلة في التعزير ، إذ أن الكثير من جرائم التعزير مجرم بنصوص صريحة كتجريم التجسس ، والربا ، الرشوة ، خيانة الأمانة ، وغيرها .
ثانياً : العقاب
ولما كانت جرائم التعزير خاضعة لمبدأ الشرعية الجنائية فإن التشريع الإسلامي لم يترك أمر العقوبة لهوى القاضي بل قيده كما فعل بأمر التجريم ، فحدد إطار عقابي لا يجوز للقاضي تجاوزه ، ولم يكن دور القاضي في العقاب على جرائم التعزير مطلق ، فثمة قيود يتقيد بها القاضي عند توقيعه للعقوبة منها :
أ – لا يجوز أن يصل عقاب التعزير للحد الذي هو من جنسه ، فلا يصل عقاب هتك عرض امرأه أو تقبيلها إلى حد الزنا ، ولا يجوز أن يصل عقاب النصب أو خيانة الأمانة إلى حد السرقة ، وكذلك لا يصح أن يصل عقاب السب إلى حد القذف ، وهكذا ، وأساس ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم ( من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين)
ب – إن عقوبات جرائم التعزير ليست محلاً للإبداع ، فعقوبات التعزير جلها معلوم وللقاضي الإختيار من بينها ومنها الوعظ ، والتوبيخ ، والجلد ، والتغريب ، والغرامة ، والقتل .
ومنذ بدء الإسلام وحتى وقت نهاية الاحتكام للشريعة الإسلامية يمكن حصر العقوبات التي قضى بها في جرائم التعزير وكأن الأمة أجمعت على مجموعه من العقوبات للقاضي فقط الإختيار منها وليس أن ينشئ ويبدع أشكال أخرى من العقوبات .
هذا مع الإحتفاظ مستقبلاً بإمكانية أستحداث عقوبات عادلة متفقه ومبادئ التشريع الإسلامي وهذا ما لا يرفضه التشريع الإسلامي .
ولم تكن أيضاً عقوبات التعزير مجالاً للانتقام فلا يجب أن تنطوي على ضرر أكبر من الجرم ذاته وإلا فقدت الخاصية التي خلعها عليها التشريع الإسلامي- قبل غيره- وهى ( تناسب العقوبة ) وأخذتها عن الإسلام القوانين الوضعية , إذاً يجب أن تتناسب العقوبة مع الفعل الذي أوجبها لا تزيد ولا تنقص عنه وثمة حقيقةً تطل برأسها من بين السطور السابقة , وهى أن قسم جرائم التعزير يخضع لمبدأ الشرعية الجنائية وبشكل مذهل إذ حقق مرونة النص وحقق أيضاً مبدأ الشرعية الجنائية ,وفوق ذلك خالياً من العيوب ,وهذه هي المعادلة الأصعب التي لم يحققها أي تشريع ولن يحققها أي تشريع إلا أخذاً عن التشريع الإسلامي .
فعندما ينعدم الحد الفاصل بين المجرم والمباح ويتــــرك الأمر للأهواء ,ويأتي التشريع الإسلامي بعلاج هذه الإشكالية على نحو لم يسبق ولم تعرفه البشرية ,حيث بين المباح والمجرم بعيداً عن الجمود وتحقيقـــــــاً لمرونة النص التجريمي دونما إفراط ولا تفريط ، وهـذه المعضلة التاريخية والمعادلة الأصعــــــب في تاريـــــخ القانون الجنائي على مر الأزمان أن يتحقــــق مبــــــــدأ الشرعية الجنائية بكل مميزاته دون عيوبـــه وتتحقـــــق مرونة النصوص بمميزاتها دون عيوبها ويتحقق ثبات النصوص بمميزاته دون عيوبه.
فلقد عانت البشـــرية من تــــرك أمر التجريم للأهواء بدون نص يبين الأفعال المجرمـــة ، ولما تم النص على ما هو مجرم تبدت على الأفق مشكلــة أخرى وهى جمود وصلابة نصوص التجريم ومن ثم خــــــــروج كثير من الجرائم من دائرة التجريم وعدم المرونة لملاحقة ما يستجد من جرائم ، وهذا بدوره يؤدى إلى إفــلات مجرمين كثر من العقاب من جهة ومن جهة أخــــــــرى إحداث فوضى تشريعية نتيجة كثرة التشريعات لعــــــدم ملائمة النصوص لواقع الحال ، فعلاج المشكلة يـؤدى إلى الوقوع في أخرى.
فحقق التشريع الإسلامي المعادلة الأصعب وعـــــلاج المعضلة الأزلية بإقراره لنصــــوص تجريمية ثابتــــــة لا تتغير هي غالباً للجرائم الجسيمــــة متمثلة في (الحدود والقصاص والدية) ، ونصوصاً مرنــة تتغير وفق حاجة المجتمع بحسب الزمان والمكان وتتمثــــــل في (جرائـم التعزير).
ولو لم يأتي التشريع الإسلامي إلا بالتعزير لكفى ، فهو ( معجزة جنائية ) بالمنطق والمنظور الجنائيين للأسباب المتقدمة ، وليس ثمة مدعاةً لتكرارها .
ولما كان هذا ، فإنه لا يكون أمام أي منصف بصير سوى التقرير بغير تردد أو انحياز بأن ما توصل إليه شراح القانون في الوقت المعاصر من مفهوم مرن لمبدأ الشرعية الجنائية بوجه عام قد سبقهم إليه شريعة الخالق وأعملته ولا غرابه في ذلك , فشريعة منزله من الخالق السماوات والأرض ومن عليها يلزم أن تأتى منزهه تسمو ما عاداها مما هو من صنع البشر ومن مجمل ما قيل في الشرعية الجنائية .بات جلياً أن التشريع الإسلامي طبق مبدأ الشرعية الجنائية على نحو معجز في سابقة جنائية تاريخية لم يسبقه أي تشريع وضعي ، وبات من نافل القول قبل ظهور المدرسة التقليدية وقبل مولد بكاريا الذين ينسب إليهما زيفاً هذا المبدأ وبأكثر من ألف ومائة عام .