بقلم الشيخ أحمد ربيع الأزهري
من أبناء الأزهر وأئمة وزارة الأوقاف
عندما ينساب إليك عبر المذياع : “هنا إذاعة القرآن الكريم من القاهرة”، تتداعي لديك أحاسيس بالغة الأثر وكأنك تسمع معها هنا صوت الإسلام، هنا صوت مصر الأزهر، هنا جامعة القرآن الكريم وكلية أصول الدين ومدرسة الشريعة وواحة التفسير وبستان السنة، هنا معهد الوطنية وصوت الحق ولسان الصدق، هنا إذاعة القرآن الكريم، بهذه الكلمات أفتتحُ حديثي عن هذه الإذاعة الغراء التي قامت على القرآن الكريم تلاوة وتجويدًا وعلى علومهِ شرحًا وتبسيطًا وعلى علوم الشريعة والفقه تفهيمًا وتعليمًا ومشكلات الناس فتاوى وإرشادًا وتوجيهًا، وعلى السنة رواية ودراية وحفظًا وصيانة، هنا صوت من أصوات مصر العظيمة قلعة الإسلام بأزهرها وبيت العروبة بمكانتها وحافظة السلام بقيمها ..
إن إذاعة القرآن الكريم منذ نشأتها وحتى الآن في ستينيات القرن العشرين جعلت رسالتها رسالة الإسلام فتجدها تدور في فلك الإسلام والحق ومصلحة الخلق بمسئولية تامة ومهنية عالية، كما أنها ومازالت منبر الوسطية والاعتدال وواحة الفكر وحسن المقال، وأحد الفرسان العاملة على أمننا الفكري وأحد ركائز قوتنا الناعمة ، مهما تعددت وسائل الاتصال ومهما تعددت الأوعية الإعلامية التقليدي منها والمبتكر ظلت إذاعة القرآن هي الإذاعة الأولى من حيث المتابعة والتقييم، فمع نسمات الصباح تجد صوتها يسطع في كل دروب مصر وأذقتها وربوعها وشعابها بل إن ألوف البيوت لا تغلقها ليل نهار، ونبرات أصوات مذيعها ماركة مسجلة وأسمائهم محفورة في عقول المستمعين .
وأنا أدعي بأن شهادتي لها غير مجروحة لكون قلمي بسوابقه يُعمل المنهج العلمي في الرصد والتحليل والتقويم .. من هنا أُبرز أهم ما رصدناه حول هذه الإذاعة المباركة تاريخًا وحاضرًا مُعاشا.
1- إن إذاعة القرآن الكريم إستمدت دورها ومكانتها من دورانها في فلك القرآن الكريم فستحقت الحفظ والصيانة والتكريم كأحد مسلك الحفظ مصدقا لقوله تعالى: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” [الحجر:9].
2- أنها كانت أول إذاعة للقرآن الكريم في العالم الإسلامي، وأن غالبية الإذاعات المشابهة لها في البلدان العربية والإسلامية استمدت منها القدوة والمثل والمنهج والطريقة بل إن بعضها إستعان ببعض أبنائها لينقل لهم تفاصيل هذه التجربة الفارقة.
3- أنها الوعاء الأول في العالم الذي حفظ الجمع المسموع للقرآن الكريم كاملا، فعندما قام الأستاذ (لبيب السعيد) باقتراح تسجيل القرآن الكريم مرتلاً ووافق الأزهر وباركته الدولة المصرية سطع صوت الشيخ محمود خليل الحصري بالقرآن الكريم مرتلاً وبالعديد من القراءات لسنوات ثم لحق به الشيوخ عبد الباسط والبنا ومصطفى إسماعيل ..إلخ ، فأصبحت إذاعة القرآن الكريم مدرسة علمية في هذا الشأن وجزء من تاريخ جمع القرآن مسموعًا بعدما جمع مسطورًا من الصدور.
4- أنها صاحبة الفضل في تعريف العالم الإسلامي والعربي بأعلام القراء المصريين وعززت مكانة مصر في هذا الشأن وأكدت مقولة ” نزل القرآن الكريم في بلاد الحجاز وقرئ في مصر.”
5- أنها قرنت مع تلاوة القرآن وتجويده شرح وتبسيط معانيه وشرح السنة وبيان مقاصدها
ومعالجة مشكلات الناس واحتياجاتهم وأذكر أنها من خلال الفترات المفتوحة “غذاء الروح” وهو برنامج كان يستمر يوميًا من الثامنة وحتى العاشرة صباحًا وفترة “الإسلام والحياة” والتي تذاع بعض أيام الأسبوع عقب صلاة العصر بقليل عالجت العديد من المشكلات الشائكة بموضوعية تامة وبوطنية خالصة، وأذكر أنني تصادف وجودي كضيف في أيام مهمة وفارقة في تاريخ مصر في برنامج “غذاء الروح” حيث كنت على الهواء مباشرة إبان الانتخابات الرئاسية التي كانت بين ثلاثة عشر مرشحا سنة 2012م، وكذلك يوم حادثة قطار البدرشين يناير 2013م، و30 يونيو 2013م، فو الله ما وجدت إلا موضوعية تامة وحرص تام على مصر وشعبها وترابها وصيانة للدولة المصرية من الخلل والزلل، بالإضافة لمعالجة عشرات القضايا الاجتماعية من منظور وسطي سديد.
كما أن دورها في لحظات الشدائد لا يُنكر حيث قامت بلعب دورٍ وطني مهم بعد نكسة 1967م حيث قامت بتقوية الجانب الإيماني ورفع الروح الوطنية من أجل الاستعداد لمعركة العبور، للمصريين عموما وللجنود خصوصا فقد ذكر لي أ.د/ طه أبوكريشة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف رحمه الله ، أنه وهو مُجند في الجيش من بعد النكسة وحتى تحقيق النصر كان صوت إذاعة القرآن الكريم خاصة والذي كان يسطع بآيات القرآن الكريم بصوت الشيخ الحصري في كل أرجاء الكتيبة بعد العصر بآيات تبث روح الأمل والتصبر والعزيمة والقوة والصبر والاستعداد للقاء العدو والجهاد في استرداد الأرض والسعى إلى إحدى الحسنيين النصر أو الشهاة، مما كان له بالغ الأثر في رفع الروح المعنوية وإعادة البناء والتأهيل النفسي للجنود.
6- أن المؤسسة الدينية المصرية مكونة من ثلاث أضلاع رئيسية الأزهر الشريف كعبة العلم ومحراب العبادة ووزارة الأوقاف أصحاب البلاغ والبيان ودار الإفتاء أهل الفتوى وبيان الأحكام وتأتي إذاعة القرآن – في وجهة نظري – كمكون رابع كمنصة الإعلام ومعلمة العوام من خلال ألوف من علماء مصر الأفذاذ في علوم أصول الدين والشريعة ومقاصدها والعربية وأصولها ، وقد ظلت لأكثر من 40 سنة هي المنصة الوحيدة في هذا الشأن، قبل أن تنفجر ثورة الاتصالات من خلال الفضائيات و الإنترنت وما يحمله من تطور مذهل في هذا الشأن.
8- أن تسجيلات إذاعة القرآن الكريم تُعد كنزا كبيرا بحيث أنها تحفظ جزء مهم من ذاكرة مصر ، فهناك تسجيلات لكبار القراء وعلمائها وشيوخها الأفذاذ مما يُعد ذكر اسم الواحد منهم قطعًا للنزاع وفصلاً للمقال.
9- أن الغالبية الساحقة من مذيعي هذه الإذاعة المباركة على مر تاريخها أدركوا أهمية أن يبتعدوا عن الحركية بل والحزبية أيضا حتى يكون صوتهم خالصًا لخدمة للقرآن وصيانة الأوطان ومحبةً في نشر العلم والعرفان.
10- أن إذاعة القرآن الكريم تعد أحد أهم قوى مصر الناعمة ، وأن الحفاظ عليها وتقويمها أول بأول والقيام على نهوضها هو في الحقيقة دعم للدولة المصرية ومكانتها في العالم العربي والإسلامي.
ومن أجل ذلك فأني أقترح للنهوض بهذه الإذاعة أكثر وأكثر ما يأتي:
1- أن تعتبر المؤسسة الدينية إذاعة القرآن الكريم جزء مكملاً لدورها وأن تقدم لها الدعم العلمي والمادي للقيام على دورها خير قيام ومن الممكن أن يوضع اتفاق بين الهيئة الوطنية للإعلام وهذه المؤسسات في هذا الصدد.
2- أن تقدم جامعة الأزهر من خلال كلية الإعلام بها وكذا كلية الإعلام بجامعة القاهرة منح خاصة للعاملين في هذه الإذاعة المباركة لتدريبهم على أحدث الأساليب التقنية والفنية والمهارية للرفع كفاءتهم وصنع برامج تدريبية خاصة تجعلهم أكثر قدرة على استيعات متغيرات العصر على المستوى التقني والعلمي بل والحياتي مما يكون له بالغ الأثر في الحفاظ على المكانة المرموقة التي حافظت عليها الإذاعة على مر تاريخها في عصر الفضائيات والإنترنت.
3- أن تُلغى الإعلانات من على إذاعة القرآن الكريم، فعلى الرغم من تفهمي الشديد لوجود مثل هذه الإعلانات لما تدره من أموال للهيئة الوطنية للإعلام والمحملة بإرث ضخم من الديون ، إلا أنها انعكست سلبًا على صورة الإذاعة عند الكثير من المستمعين.
4- أن يُطلق مشروع قومي لجمع وفهرسة وترميم تراث إذاعة القرآن الكريم، وأن نغتنم فرصة وجود أشخاص لهم خبرة مثل (أ. إبراهيم مجاهد) الرئيس السابق لهذه الشبكة والذي يعرف الكثير من دروب كنوزها ، وكذلك المخرج (أ.عبد العزيز عمران) والذي له تجربة مهمة في الكشف عن التراث التليفزيوني … إلخ ، وغيرهم ممن يختارون لهذه المهمة، وسوف نجد كنوزًا من الممكن أن تكون خير معين لنا في مواجهة الجهل الديني والتطرف الفكري والخلل القيمي .. إلخ، كما أنها سوف تعد كنزًا يمكن تسويقه بشكل جيد مما سوف يجلب الكثير والكثير من المكاسب المادية .
5- أن ننهض بعمل عدة موسوعات لهذه الإذاعة باعتبارها جزء مهم من تاريخ الإذاعة والإعلام المصري بل وتاريخ مصر مثل: إذاعة القرآن الكريم النشأة والتاريخ والرسالة، موسوعة برامج إذاعة القرآن الكريم على مر تاريخها، وموسوعة أعلام إذاعة القرآن الكريم. – مذيعين وضيوف -ـ..إلخ
6 – أن تقوم كليات الإعلام بتسجيل رسائل علمية عن إذاعة القرآن الكريم ودورها الفكري والوطني ، مثل دور إذاعة القرآن الكريم في تأمين المجتمع فكريًا دراسة تحليلة، القوة الناعمة للدولة المصرية إذاعة القرآن الكريم نموذجًا، دور إذاعة القرآن في نشر القرآن وحفظه من 1965-2015م – خمسين سنة – في المجتمع المصري، فتاوي الشيخ عطية صقر وإبراهيم جلهوم على أثير إذاعة القرآن الكريم جمعا وتحليل أو دراسة مقارنة..إلخ .
7- أن تصنع رؤية مشتركة تجمع كلية القرآن الكريم بجامعة الأزهر وإذاعة القرآن الكريم لخدمة القرآن ونشر القراءات القرآنية المتواترة وتقديم النماذج الفارقة في هذه الكلية على هذا الأثير، وأن تستفيد الكلية من الإذاعة في تدريب الطلاب وثقل مواهبهم على الأداء الإذاعي ..إلخ وصناعة جيل من القراء يجمعون بين حلاوة الصوت والعلم الأكاديمي المتخصص.
8- أرجو أن تطلق إذاعة القرآن الكريم مشروعًا طموحًا لتسجيل القرآن الكريم بمائة صوت مصري فمصر التي خرجت الحصري وعبد الباسط والمنشاوي قادرة على إخراج أمثالهم بل وأفضل منهم وهذا مقبول عقلا بلا شك ومؤيد شرعًا بكونه مسلك من مسالك حفظ للقرآن الكريم .
9- هناك العديد من البرامج التي قام بها كبار علماء مصر والأزهر الشريف ، فمن الممكن أن نقوم بجمع برامج كل عالم على حدة في البرامج والحلقات التي شارك فيها على أثير القناة وتسوق من خلال تفريغها في صورة كتاب على أن يرفق مع الكتاب أسطونة مدمجة للمحتوى الصوتي الذي تم تفريغه، فتخيل أننا فعلنا ذلك مع البرامج التي شارك فيها الشيخ عبد الحليم محمود وجاد الحق والباقوري وشلتوت وصادق العدوي ..إلخ. وهذا الأمر له مكاسب مادية بلا شك، ويفيد في جمع تراث الأعلام ويساعد الباحثين في هذا الشأن.
هذه بعض خواطري حول إذاعة القرآن الكريم صاحبة الرسالة السامية والعطاء المتجددـ سائلا الله لها التوفيق في حفظ كتابه ونشر صحيح الإسلام وبناء الإنسان وتزكية الوجدان وحفظ وصيانة الأوطان.