تعيش الأمة الإسلامية اليوم أنوارالأشهر الحُرم بعطاءاتها ،وجلالها، وأنوارها مع مطلع أنوار شهر رجب الأصمّ ،وهي شهور عظّمها ربنا سبحانه وتعالى، وإنْ كانت العظمة من صفات الله تعالى ،لذا كان من موجبات تعظيمه سبحانه “تعظيمُ حُرماته” ،ومن أعظم الشعائر الزمانية المُعظّمة عند الله ،والتي اختصّها بمزيدِ فضلٍ وإكرامٍ.. الأشهر الحُرم ،والتي نعيش مطالعها النورانية هذه الأيام.. مع مطالع وإشراقات شهر رجب الفرد المعظّم الذي هلّ علينا منذ أيام قلائل. إنه الشهر السابع من السنة القمرية أو التقويم الهجري. وهو الشهر الذي عظّمته العرب في الجاهلية وفي الإسلام، فقد كان العرب في الجاهلية يسمونه بعدة أسماء ويحرمون فيه القتال والإغارة، فسموه رجب لأنه كان “يُرجَّب” أي يُعَظَّم، وسموه “رجب الأصَّم” لأنه لم يكن يسمع فيه صوت السلاح، وسموه “رجب مُضَّر” لأن قبيلة مضر كانت تزيد في تعظيمه واحترامه فنسب إليهم لذلك. وسموه كذلك “رجب مُنصّل الأسنّة” كما جاء عن أبي رجاء العطاردي قال: “كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجرا هو أخيرُ منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرا جمعنا جثوة “كوم من تراب” ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طفنا به فإذا دخل شهر رجب قلنا مُنصّل الأسنة فلا ندع رُمحًا فيه حديدة ولا سهمًا فيه حديدة إلا نزعناه وألقيناه في شهر رجب”، وله كذلك عدة أسماء ذكرها أهل العلم بلغت الثمانية عشر منها: الحرم ؛لأن حرمته قديمة ،والمقيم ؛لأن حرمته ثابتة ،والمُعلَّى؛ لأنه رفيع القدر عندهم ،وشهر العَتِيرة؛ والعَتِيرَةُ: ذبيحة كانوا يذبحونها لآلهتهم في الجاهلية، وقد كانوا يذبحون فيه ذبيحه أسموها “العتيرة”، وسموه المبري، والمعشعش.
وعندما جاء الإسلام احتل مكانة عظيمة بتسميته بعدة أسماء منها “رجب الفرد” لأنه شهر حرام فرد بين أشهر حلال، وكذلك بـ”رجب الأصب” لأن رحمة الله تصب على التائبين من عباده صبًا ،وتفيض أنوار القبول على العاملين والطائعين فيه ،وهذا تعظيم يعود لدخول هذا الشهر العظيم في عموم فضل الأشهر الحرم التي قال الله فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ…} (التوبة:36)، وهي الشهور التي احتفت بها السنّة المُطهْرة وفصّل نبيّ الرحمة الحديث حولها في خطبة الوداع فيما رواه أبو بَكْرَةَ– رضي الله عنه– أنَّ النَّبيَّ (صلّى اللهُ عليه وسلَّم) خَطَب في حجَّتِه، فقال: إنَّ الزَّمانَ قد استدار كهيئتِه يومَ خَلَق اللهُ السَّمواتِ والأرضَ، السَّنةُ اثنا عَشَرَ شَهرًا، منها أربعةٌ حُرُمٌ، ثلاثٌ متوالياتٌ: ذو القَعْدةِ، وذو الحِجَّةِ، والمحَرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ الذي بين جُمادى وشَعبانَ “أخرجه البخاري .
ولو تأملنا الآية الكريمة السابقة لوجدناها قد ابتدأت بالنّهي عن الظلم ،ولم تبتدئ بالحثّ على العمل الصالح، ولذلك عِلةٌ ،وهي: أنّ لِظلمِ النفس جَانِبين: الأول منهما :لا تظلمْ نفسك بتفويت الزّمن الصالح ،وتركه للطاعة.
والثاني: ألا تظلم نفسك بعمل المحرمات في الزمن الفاضل ،بمعنى: لا تجعلوا حرَامَهَا حلالًا ،ولا حلالَها حَرامًا. قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ…} في كُلّهن ،وقال القرطبي: بارتكاب الذنوب، وقيل في تفسيرها أيضًا :فلا تعصوا الله فيها ،ولا تُحلُّوا فيهن ما حرّم الله عليكم ،وقيل :الظلم هنا، العمل بمعاصي الله ،والتركُ لطاعته .
وقد اختصّ الله من الشهور أربعة (ذو القَعْدةِ، وذو الحِجَّةِ، والمحَرَّمُ، ورَجَبُ)، فجعلهن حرامًا ،وعظّم حُرماتهن ،وجعل الذنب فيهن أعظم ،والعمل الصالح والأجر أعظم. إنّها أشهُرٌ حُرُمٌ، حرّمها اللهُ ،ولم يُحرّمها الناسُ ،فالْتِزامُ فرائض الله فيها أوجَبُ ،وانتهاكُ محارمه فيها أقبح ،وإن كان ظُلمُ النفسِ في سائر الشهورِ مُحرّمًا؛ فحرمتُه في الأشهُرِ الحُرُم أعظَمُ .
وقال قتادة في قوله تعالى:{ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ…}، إنّ الظلمَ في الأشهر الحُرم أعظمُ خطيئةً وَوِزْرًا من الظلمِ فيما سواها. وإنْ كان الظلمُ على كل حالٍ عظيمًا ، ولكن الله يُعَظّمُ من أمره ما يشاء، فاصطفى سبحانه صفايا من خلقه: اصطفى من الملائكة رُسُلًا، ومن الناس رُسُلًا. واصطفى من الكلام ذِكْرَه سبحانه وتعالى، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحُرُم، واصطفى من الأيام يوم الجُمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظّموا ما عظّم الله، فإنّما تُعظّم الأمور بما عظّمها الله به عند أهل الفهم، وأهل العقل .
ولا شكّ في أنّ الله يصطفي ما يشاء، ويفضّل ما يشاء من الزمان والمكان، فقد قال العزّ بن عبدالسلام رحمه الله: “وتفضيلُ الأماكن والأزمان ضربان: أحدهما: دُنيوي، والضرب الثاني: تفضيلٌ دِينيٌّ.. راجعٌ إلى أنّ الله يجود على عباده فيها بتفضيل أجر العاملين، كتفضيل صوم رمضان على صوم سائر الشهور، وكذلك يوم عاشوراء. وكذلك الأشهر الحُرم، فَفَضْلُها راجعٌ إلى جُودِ الله، وكرمه وإحسانه إلى عباده فيها، بعد أن اختصها بالذكر تشريفًا لها في قرآنه الكريم، وتنبيهًا للعباد أن يُكثروا فيها من ذكر الرحمن ،وفعل الطاعات والقربات، ويتجنبوا فيها الوقوع في الظُّلْم والمُحرّمات ،فاجتهدوا رحمكم الله تعالى في هذا الشهر العظيم، فانه موسم من مواسم الخيرات، وشهر من الأشهر الحرم التي تعظم فيها الطاعات ،واحرصوا على الاستغفار فيه لعل الله يغفر لنا ذنوبنا، وراعوا حرمته استجابةً لأمر الله في قوله تعالى: {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} ،لا تجعلوا حلالها حراما ،ولا حرامها حلالا كفعل أهل الشرك، اغتنموا هذه الأيام الفضيلة بعمل الصالحات والخيرات ،وكثرة الاستغفار ،وأقبلوا على الله بكل ما يرضيه ،وأحيوا الذكرى بقلب المؤمن الخاشع ،المتدبر ،العامل بقوله تعالى :{إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} ق: (37 )، “اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ وَبَارِكْ لَنَا فِي رَمَضَانَ، وَفي رواية: بَلِّغْنَا رَمَضَانَ”، اللهُمّ آمين.