بقلم: د. مصطفى عرجاوي
أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر
إن قدرة الله جل في علاه خالقة للأسباب، وخارقة لها أيضًا، فلا شيء يعجزه في الأرض ولا في السماء، فأمره بين (الكاف، والنون) لقوله تعالى: “إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ” (يس: ٨٢)، وعندما أراد الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليكون خليفة في الأرض، خلق آدم عليه السلام بلا أم ولا أب، وخلق أم البشرية حواء بلا أم، ولطلاقة القدرة الإلهية خلق سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام بلا أب، وبذلك تتجلى طلاقة القدرة مجسّمة أمام الأنام، فضلًا عن أن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام، نطق في المهد وتكلم بلغة فصيحة، وبيّن الهدف من وجوده، وأنه مخلوق كعبد لله تعالى، ويحمل رسالته جل في علاه، رسالة التوحيد وهو في المهد صبيًا، وإن ما يتمتع به من قدرات ومعجزات خارقة للنواميس والأسباب المنطقية بفضل الله سبحانه وتعالى وإرادته جل جلاله، وجاء في الذكر الحكيم ما يؤكد ذلك في قوله تعالى حكايةً عما نطق به حرفيًا المسيح عليه السلام: “قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً ” (مريم: ٣٠ – ٣١)
هذا الإعجاز في الخلق، والكلام في المهد، والتكليف من صرخة الوضع، والمباركة من لحظة الميلاد، وحمل رسالة الحق سبحانه وتعالى إلى الخلق وهو ما يزال في المهد صبيًا، ومنحه القدرة على إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، والنفخ في الطين فيصير طيرًا، كل ذلك بإذن الله تعالى، قال عز وجل في بيان المعجزات المؤيد بها المسيح عليه السلام: “وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ” (آل عمران: ٤٩)
هذا النبي الآية المعجزة خلقًا، وتكليفًا، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام، يلزمنا كمسلمين أن نحتفي بمولده المعجز، وأن نُقر برسالته، وأن نلتزم بمحبته، وأن نحترم اتباعه إيمانا بقول الله تعالى: ” لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” (البقرة: ٢٥٦)، وقوله عز وجل: “لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ” (الكافرون: ٦)، ولا مانع على الإطلاق من تهنئة من يدينون لشريعته، بيوم مولده، بل واحترام شعائرهم ومشاعرهم، لأن الفقهاء من علماء المسلمين يرون إلزام من يتزوج بيهودية أو نصرانية أي بذات كتاب، أن يحترم دينها، وأن يُمكنها من أداء طقوسه، وأن يتخلق بخُلق القرآن، كما كان خير خلق الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يُعامل ويَتعامل، وإذا كانت الشريعة المسيحية تحث على المحبة والتسامح والتراحم، فهي لا تختلف عن الإسلام على الاطلاق في حثه على هذه القيم الإنسانية النبيلة، ومن لا يعرف ذلك أو يُطبقه قولًا وفعلًا، وسلوكًا ومنهجًا، فليراجع عقيدته، لأن الإسلام هو دين السلام، شعاره قول الله عز وجل: “ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ” (فصلت:٣٤)، هذا المعنى الكريم ينبغي أن يسود بين أبناء الأمة الواحدة، بلا أدنى تفرقة، فالكل ينعم بنعمة المواطنة، والكل يلتزم بأداء الخدمة الوطنية بلا أدنى تمييز، فوطننا واحد، وموقفنا جميعًا تجاه من يحاول المساس به واحد، ونسيج واحد، وكلنا يد واحدة في مواجهة أعداء الوطن، وكل منا يعبد ربه بلا تجاوز على غيره أو شطط، لذلك ينبغي علينا في مناسبة العام الميلادي الجديد، أن نتوجه لإخواننا بالتهنئة القلبية الخالصة والصادقة، وذلك بمنتهى المودة والرحمة؛ لأن الدين لله تعالى والوطن لنا جميعًا، فسلام على سيدنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله صلى الله عليه وعلى أنبياء الله ورسله أجمعين، وسلام عليه منا جميعا اقتداءً بقول الله تعالى حكاية عنه في محكم كتابه: “وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا” (مريم:٣٣)، حقًا، وصدقًا، ويقينًا.
خالص التهاني القلبية لجميع إخواننا في الوطن من المسيحيين بجميع مذاهبهم وطوائفهم، سائلين الله تعالى أن يُعيد عليهم هذه المناسبة المجسّمة والمصوّرة لحمل وميلاد هذا النبي الكريم، كآية متفردة غير مسبوقة بشبيه أو مماثل له في ذات الخلق والميلاد والبعث، وكل عام وأمتنا في خير وسلام ووحدة ووئام، يجمعنا عقيدة الإيمان بالله ربا، وبالوطن عشقا، وبالمواطنين مودة دائمة وترابطًا وعزًا، فمصر حقًا هي الوطن والحصن المنيع للجميع، بلا أدنى تفرقة أو تمييز.
والله تعالى من وراء القصد