إنَّ تقدم الأمم ونهضة الشعوب يرتبط ارتباطًا وثيقًا وضروريًا بوجود الصفوة العالمة المفكرة التى تهتم بقضايا الأمة وتحمل أعباء المجتمع وهموم قضاياه، سواء كانت هذه الصفوة فى موقع المسئولية التنفيذية أو مشغولة بقضايا الفكر والثقافة الاجتماعية، ولا نجد أمة تقدَّمت واعتلت سلم الحضارة دون مجهودات هذه الصفوة التى أنارت لها الطريق ومهَّدت لها سبل الرقى والتحضر.
حول هذا المضمون صدر كتاب جديد للزميل الكاتب الصحفي صابررمضان مدير تحريرجريدة الوفد تحت عنوان “حوارات صحفية…حديث العقل والفكر والدين” عن دار طفرة للنشر والتوزيع”. الكتاب يتوافر فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، وقد جمع فيه المؤلف 45 شخصية من كبار قامات الفكر والدين والثقافة والسياسة، وقدم له المفكر الإسلامى الكبير الدكتور محمد السيد الجليند أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة والمفكر السياسي الشهير الدكتور حسام بدراوى والمفكر الكبير الدكتور مصطفى النشار رئيس الجمعية الفلسفية المصرية.
يقول د. “الجليند ” إن الكتاب الذى بين أيدينا أحسن فيه المؤلف صنعًا فى اختيار هذه الصفوة من جانبٍ واختيار القضايا التى جعلها موضوعات للحوار بينه وبين المتخصصين فى كل فنٍ من جانبٍ آخر.
إنَّ هذه النماذج المختارة تمثل كمًا كبيرًا من صفوة الصفوة التى اعتلى بعضها المنابر التى يصدر عنها القرارات التنفيذية، وبعضها اشتغل بالسياسة الحزبية فشارك فى صنع القرار وتنفيذه، وكذلك كانت أسئلة المحاور شاملة للقضايا الكبرى التى شغلت المفكرين والنقاد والأدباء.
ومن هنا فقد جاء الكتاب مرآة عاكسة لقضايا الساعة وهموم المجتمع سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا، إنَّه نمط جديد من كتابة التاريخ يختلف فى منهجه عن كتب الطبقات التى تهتم بالتأريخ لطبقةٍ معينةٍ من العلماء مثل طبقات النحاة، أو طبقات الحكماء، أو طبقات المفسرين، كما يختلف عن كتب الحوليات التى تتخذ من العام الواحد وعاءً زمنيًا يسرد المؤرخ خلاله كل الأحداث التى وقعت فيه مثل البداية والنهاية لابن كثير، إنه نمط مختلف عن ذلك كله ومنهج جديد فى التأريخ «بالهمزة» لمرحلةٍ تاريخيةٍ تمتد زمانيًا لتشمل القرن العشرين بكامله ثم تمتد إلى مطلع القرن الواحد والعشرين.
فقد رسم المؤلف بهذه الحوارات المتعددة الجوانب صورة شاملة للوضع السياسى والثقافى والاجتماعى لمصر خاصة وللعالم العربى عامة، تعتبر هذه الصورة وثيقة تاريخية لمصر وللمنطقة العربية تحمل مصداقيتها فى الحوار القائم بين السائل والمجيب. لأنَّ المجيب هنا هو المفكر والسياسى والمسئول التنفيذى.
ويضيف “الجليند” إن الأسئلة التى يطرحها المحاور فى هذه الوثيقة تدل على أمرين: الأول أنَّ هذا المؤلف يعيش نبض المجتمع ويشعر بهمومه وإحساساته ويعرف القضايا المهمة التى تشغل عقول المفكرين والنقاد والأدباء.
الأمر الثانى: مستوى الحرفية التى تناول بها المؤلف القضايا المطروحة فى الحوار ومنهجه فى استخراج الأسرار التى لم تسمح الظروف بالإفصاح عنها فيضع المفكر أو المسئول فى مواجهة مباشرة أمام نفسه، فيصرح بأمور ويبوح بأسرار، ما كان لها أن تعرف إلا فى مثل هذا الحوار الذى اتسم بالصراحة والوضوح والمكاشفة.
ومن هنا تأتى أهمية هذا السفر للمؤرخ السياسى، لأنه يجد فيه آراء وأفكارًا سياسية كانت تمثل الرأى الآخر فى وقتها. مع قابليتها للتنفيذ ونفعها للحاضر والمستقبل.
ويجد المؤرخ للحركة الثقافية بغيته في استجلاء الآراء التى أدلى بها النقاد والرواة فى حوارهم.
وكذلك رجل الدين ودعاة التجديد الدينى والثقافى قد صرحوا بآراء وأفكار لها أهميتها فى التجديد ومراعاة الظروف الاجتماعية والثقافية، فى تجديد الفتوى والحفاظ على الثوابت والأصول.
كما أنَّ دعاة التنوير الذى بهرهم الغرب بدعوى الحداثة والتحديث سوف يجدون منهجًا جيدًا للتنوير المنضبط بالأصول التى تشكل هوية الأمة ولا ينفصل عن العصر ومقومات النهضة، يتخذ من العلوم الكونية وقوانين العلم سلاحًا ينير به الحاضر ويستشرف به آفاق المستقبل، وهذا المنهج هو ما دعا إليه القرآن الكريم فى العديد من الآيات القرآنية التى تجعل من طلب العلم فريضة ومن ممارسته عبادة لله.
إنَّ هذا العمل يسد فراغًا فى التاريخ للحركة الثقافية والسياسية لهذه المرحلة التاريخية بمقدار مصداقيته فى كل معلومة رواها صاحبها أو رأى أدلى به المفكر، لأنه جاء بلا واسطة من الرواة.
ويقول الدكتور حسام بدراوى: هذا الكتاب ليس مجرد مجموعة من الحوارات الصحفية، بل هو مرآة تعكس تعقيدات العالم الذي نعيش فيه، وتُظهركيف يمكن للحوارالصادق والذكي أن يكون جسراً نحوفهم أعمق للإنسانية.
وما يميز هذا الكتاب ليس فقط تنوع الشخصيات، بل الطريقة التي نجح بها كاتبه في استنباط الأفكار والتوجهات منهم، وصياغة حوارات حيَّة تعكس مهاراته العالية في التحليل والاستقصاء. إنه يعرف كيف يغوص في عمق الأسئلة ويستخرج من ضيوفه أفضل ما لديهم، ليقدم لنا حوارات لاتكتفي بالكشف عن المعلومات بل تُحفّز الفكر وتثير النقاش.
فى الختام فإن قيمة هذه الحوارات أنها قدمت تجربة حيَّة وفريدة عبر الدخول إلى أعماق فكر هذه الشخصيات وآرائهم في العديد من القضايا المثارة على الساحة، فهناك عبارة فى الفلسفة تقول:” تكلم لأراك” والتى كانت هى الطريق الذى سلكته في محاورتى لهؤلاء العباقرة.