بقلم الدكتور طلعت عبد الله أبو حلوة
أستاذ البلاغة والنقد
ووكيل كلية الدراسات الإسلامية والعربية
للبنين بدسوق جامعة الأزهر
يذكرنا هلال شهر شعبان بحدث جَلَل وعظيم، ألا وهو حدث تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، حيث الكعبة المُشَرَّفة، أو إن شئت قلت من بيت المقدس بفلسطين إلى البيت الحرام بمكة المكرمة، وكان ذلك التحويل -على أرجح الأقوال- في ليلة النصف من شعبان، على رأس ثمانية عشر شهرًا من مَقْدَم النبي -ﷺ- المدينة، في العام الثاني من الهجرة، بعد أن اتجه المسلمون في صلاتهم إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت الحرام، قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، وكان يحرص على أن يكون مستقلًا ومتميزًا عن أصحاب الشرائع الأخرى.
وقد كان النبي -ﷺ- وهو في مكة قبل الهجرة يتوجه بصلاته هو ومن معه من الصحابة -y- شطر المسجد الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا، ومطافًا ومزارًا لهم، وكانوا يجعلونه فيما بينهم وبين بيت المقدس، فيجمعون بذلك بين القبلتين ، وظلوا يجمعون في الصلاة بين القبلتين ما شاء الله لهم، ثم أُذِنَ للنبي وأصحابه في الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وفى المدينة تعذر على النبي والذين آمنوا معه الجمعُ بين القبلتين، فأُمِرَ النبي -ﷺ- في بداية الأمر بأن يتوجه بصلاته شطر بيت المقدس قبلة اليهود تأليفًا لقلوبهم، وهنا فرح اليهود قائلين: إن محمدًا تَبِعَ قبلتنا؛ لأننا على الحق، و يوشك عما قريب أن يتبع ملتنا، ولكنه أخذ يقلب بصره في السماء، ويديم النظر إليها يدعو ربه ويناجيه راجيًا أن يصرف وجهه في الصلاة إلى المسجد الحرام الذي جعله الله أقدم القبلتين، فاستجاب الله -U- لنبيه، وأمره بأن يولي وجهه في صلاته شطر المسجد الحرام، وأنزل عليه بردًا وسلامًا قوله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ البقرة: (144)، وبذلك فرح الرسول -ﷺ- باستجابة الله دعوته له، وفرح المسلمون بالقبلة الجديدة التي تخالف قبلة اليهود.
وبقدر ما فرح النبي -ﷺ- وصحابته -y- بتحويل القبلة إلى المسجد الحرام بقدر ما حزن اليهود واغتموا، فأخذوا يلجأون إلى حرب الأراجيف والأكاذيب، وإثارة الشكوك والتساؤلات حول هذا التحويل بُغْية زعزعة استقرار الدولة الإسلامية الناشئة، الأمر الذي قد أخبر اللهُ به نبيَّه قبل وقوعه تهيئة وتوطينًا وإعدادًا لنفسه ونفوس أصحابه في قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ البقرة: (142)، وفي هذا الإخبار الغيبي برهان من أعظم البراهين الدالة على نبوة النبي محمد y.
وفي جَعْل القبلة في مكة قبل الهجرة شطر الكعبة المشرفة، ثم بعد الهجرة في بداية الأمر شطر بيت المقدس، ثم العودة بها شطر الكعبة المشرفة واستمرار ذلك، امتحان واختبار وابتلاء؛ ليُعْلَم من يَتَّبِع الرسول -y- حقًّا ويصدق في إيمانه ممن ينكص وينقلب على عقبيه ويرتد، فلله المشرق والمغرب، وما العبادة الحَقّة إلا السمع والطاعة والامتثال والانقياد لأمر الله I؛ حيث أخبر -U- بقبول صلاة الذين ماتوا وقد صلوا نحو بين المقدس، يقول تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ البقرة: (143).
وليلة النصف من شعبان التي حدث فيها هذا الأمر الجَلَل العظيم ليلة مباركة، وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة، صحح بعض العلماء بعضًا منها، وضعفها آخرون، وإن أجازوا الأخذ بالضعيف في فضائل الأعمال، وهذه الأحاديث يُعَضِّد بعضها بعضًا، ويرفعها إلى درجة الحسن والقوة، ويدل مجموعها على أن لفضل هذه الليلة أصلاً، وليس هناك نص يمنع ذلك، ومشروعية إحيائها أمر ثابت عن كثير من العلماء القدامى والمحدثين ؛ لما في إحيائها من الخير الكثير، وقد خصَّ الله -I- الأمةَ الإسلامية بكثير من مواسم الخير، ومنها ليلة النصف من شعبان، فيُستحبُّ في ليلها ونهارها الاجتماع على الخير، والإكثار من التقرب إلى الله فيها بالطاعات والذكر والدعاء وسائر العبادات المطلقة التي يُسَنُّ أداؤها في أي وقت، فضلًا عن أن تؤدى في وقت مبارك جمعًا بين فضيلتين في وقت واحد، والناس في زماننا الذي ماج بالموبقات، وكثرت فيه المفاسد أحوج ما يكونون إلى اجتماعات الخير ومواسم الرحمات، والتعرض لنفحات الله في أيامه، وأحوج ما يكونون أيضًا إلى لحظات يرجعون فيها إلى ربهم، ويثوبون إلى رشدهم، ولا يخفى أن الاجتماع على الخير من أعظم الأسس التي قام عليها الإسلام، ودعا إليها.
وقد ظهر اليوم جماعة من المُتَفَيْهِقين والمتشدِّقين والمتنطعين، وضعاف العقول والأفهام، ممن وقفوا على أبواب الله؛ ليصدوا عباده عن سبيله، ويجردوهم من الروحانية، بضاعتهم التبديع والتفسيق والتكفير، وربحهم التفريق والتشتيت والتمزيق، فلا راجت بضاعتهم، ولا ربح بيعهم، ومن المعلوم أن العلم يعذر كل إنسان بما عنده، ولا يبخس أحداً شيئه الذي تَوَصَّلَ إليه، واقتنع به، ما دام معه دليله، ويعتصم ببرهانه، وذلك انطلاقًا من قول سلفنا الصالح: نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضُنا بعضًا فيما اختلفنا فيه، وحياتنا مُتْرَعة ومملوءة بالمتفق عليه الذي هو أولى ببذل الجهد من المختلف فيه الذي يصرفنا عن الأهم، فنضل ونخزى وتذهب ريحنا، رزقنا الله جميعًا الاعتصام بحبله، والصلاح والإخلاص في الاعتقاد والقول والعمل، وحفظنا من الفساد والزيغ والزلل.