بقلم د. حنان شبانة
الأستاذ المساعد بجامعة تبوك سابقآ
رمضان، ذلك الشهر المبارك الذي يجسد أسمى معاني الروحانية والتآلف، يعد فرصة مميزة لتعزيز الروابط العائلية والإنسانية. مع كل وجبة إفطار، تتجدد اللحظات الجميلة حول موائد الطعام، ويتعمق التفاعل الروحي بين أفراد الأسرة، بما يعكس روح هذا الشهر الكريم. قال الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [البقرة: 183].
ومع ذلك، فرضت الحياة المعاصرة، بتزاحم جداولها اليومية بالعمل، والدراسة، والتنقل المستمر بين المدن والبلدان، تحديات كبيرة للحفاظ على هذه العادات التقليدية. فأصبح اللقاء العائلي حول مائدة الإفطار مشهدا نادرا يصعب تحقيقه كما كان في الماضي. وهنا يطرح السؤال: كيف يمكننا، في ظل هذه التغيرات، أن نحافظ على روحانية رمضان وترابطنا العائلي؟ وكيف يمكن للتكنولوجيا أن تكون جسرا للتواصل في زمن التباعد؟
رغم التحديات الجغرافية والاجتماعية، يظل رمضان فرصة لا تعوض لتعزيز الروابط الإنسانية، بما يعكس معاني التراحم والمحبة التي يدعو إليها الإسلام. قال النبي (صلى الله عليه وسلم):” لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” (رواه البخاري).
فاليوم، تلعب التكنولوجيا دورا محوريا في التقريب بين الناس، حتى عندما تفرقهم المسافات، فمن خلال أدوات الاتصال الحديثة مثل: Zoom وGoogle Meet، يمكن للأسر تنظيم ما يسمى بـ”الإفطار الافتراضي”، حيث تجتمع العائلات من مختلف أنحاء العالم على موائد رقمية تشارك فيها لحظات الإفطار والأنشطة الرمضانية.
ولا تقتصر فوائد هذه التجمعات الافتراضية على تعزيز التواصل الاجتماعي، بل تمتد إلى تقوية الروابط الروحية. فتتيح هذه المنصات للأسر مشاركة أنشطة مثل: قراءة القرآن والدعاء الجماعي، مما يخلق جوا من الألفة والمحبة، ويعيد إحياء العادات الرمضانية رغم المسافات. وهذه اللقاءات الرقمية يمكن أن تكون بديلا فعالا عن اللقاءات الواقعية، خاصة في ظل صعوبة التنقل الجغرافي.
ومع ذلك، يبقى التحدي الأكبر هو تحقيق التوازن بين استخدام التكنولوجيا والحفاظ على التواصل الواقعي. صحيح أن الأدوات الرقمية تسهم بشكل كبير في تقريب المسافات، لكنها لا يمكن أن تعوض القيمة الحقيقية للتواصل المباشر. فالإفراط في الاعتماد على الوسائل الرقمية قد يؤدي إلى عزلة اجتماعية، وتراجع التفاعل الشخصي بين أفراد الأسرة. لذا، ينبغي استخدام هذه الأدوات بحكمة لتعزيز التفاعل الإنساني دون أن تفقد العلاقات قيمتها العميقة.
قال الله تعالى ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103]، فالترابط الإنساني هو الأساس، سواء تحقق من خلال الوسائل التقليدية أو الأدوات الحديثة.
في الوقت نفسه، لا تقتصر فوائد التكنولوجيا على تعزيز الروابط الأسرية، بل تسهم أيضا في تقليل مشاعر الوحدة التي قد يشعر بها البعض في رمضان. فالقدرة على التواصل مع الأهل والأصدقاء عبر الإنترنت توفر وسيلة فعالة لمكافحة العزلة وتعزز الهوية الثقافية والدينية، مما يجعل التكنولوجيا أداة فعالة للحفاظ على الترابط الاجتماعي في زمن التغيرات السريعة.
لكن رمضان ليس مجرد شهر للتكنولوجيا أو حتى للتواصل الرقمي، بل هو مناسبة لإعادة النظر في جوهر علاقاتنا وتعزيزها. إنه دعوة لنا جميعا لتقدير اللحظات التي تجمعنا مع أحبائنا، سواء كان ذلك حول مائدة إفطار حقيقية أو عبر شاشة. كل لحظة نشاركها مع من نحب تعد فرصة لإحياء القيم الرمضانية التي تتجاوز المسافات المادية وتصل إلى عمق قلوبنا.
وفي الختام، يبقى رمضان شهر التواصل والمحبة، حيث نتعلم – من جديد- أن الروابط الإنسانية لا يمكن لأي مسافة أن تفرقها. فالتكنولوجيا تقدم حلولا مبتكرة للحفاظ على هذه الروابط، لكن الحضور الشخصي والتفاعل الواقعي يظلان أساس هذه العلاقات. فلنسعى جاهدين لإيجاد هذا التوازن الذي يجمع بين روح العصر وأصالة القيم.
قال النبي (صلى الله عليه وسلم):” من لا يشكر الناس لا يشكر الله” (رواه الترمذي).
فلنشكر الله على هذه الأدوات التي تقربنا من أحبائنا، ولنحرص على استخدامها بحكمة، مع التمسك بجوهر رمضان وروحه الإنسانية.