بقلم الدكتورة نجلاء أسعد الخضراء
باحثة سورية فى التراث الشعبى
روت الكوفية الفلسطينية بألوانها المعروفة وما حملته من رموز وشعارات مطرزة قصة معقدة لتاريخ طويل، وحكت عن أصالة شعب ناضل من أجل البقاء، وعن وحدة الأرض واللغة والتاريخ والمصير التي أرهبت الأعداء، ونيران أشعلت في ساحات الوغى، وأبطال خلد التاريخ بطولاتهم وتفانيهم وتضحياتهم.
هي لباس الرأس عند الرجال للمجتمعات العربية القديمة، انتشرت على البقعة الجغرافية التي شملت فلسطين والأردن وسوريا ولبنان والعراق والسعودية باستمرار أصحابها، وتنوع أرضهم واختلاف أنشطتهم وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، وتلون عقائدهم ومعتقداتهم، فكانت لباس الفلاح والصياد، تحميه من لهيب الشمس وتمتص عرقه وتقيه من هواء الشتاء وبرودته، واستخدمها البدوي ليقي أنفه وعيونه من غبار الصحراء ورمالها وشمسها الحارقة، وتألق بها أصحاب المراكز والمناصب العليا، لترسم على ملامحهم ظلال الكرم والتعاون ، وكان زيا مناسبا في الأعياد والمناسبات الدينية والاجتماعية.
أطلق عليه العديد من الأسماء فكانت الكوفية والشماخ والغترة والحطة.
فالشماغ كلمة سومرية اش- ماخ وتعني غطاء الرأس
والغترة تحوير لغطاء والحطة من حط يحط على الرأس.
وسميت الكوفية نسبة إلى الكوفة حيث كانت تصنع هناك إضافة إلى أنها زيا لغالبية أهل الكوفة ومنتجا لمدينتهم يتباهون به.
ترجع جذور الكوفية إلى فترات عميقة في التاريخ، استخدمها الانسان عند سفوح الأنهار وعلى شواطئ البحار، عندما وضعوا على رؤوسهم شباك الصيد، رمزا لخطوط المياه والأصداف كتعويذة لطرد الشر.
واستخدمها الكهنة قبل حوالي 5000عام، وعندما كان الكهنة والملوك يرتدون الملابس البيضاء، وضعوا فوقها شباك الصيد مصنوعة من صوف الغنم، وبعدها اندمجت الطبقتين بطبقة واحدة سميت الشماغ، الذي أصبح غطاء شعبي للرأس بخيوطه القطنية، واستخدمه أصحاب المكانة والهيبة وأهل المناصب، فصنعت لهم من الحرير الخالص في حلب ودمشق والقاهرة
على امتداد المناطق التي سكنتها المجتمعات العربية من البحر المتوسط إلى بلاد ما بين النهرين، إلا أن كل مجموعة عملت على تحريف الرموز وتغيرها بحسب هويتها وأساليب عملها وما يناسب فكرها ومعتقداتها.
فاستخدم سكان البوادي ومربو الماشية الزخارف ذات اللون الأحمر، وعبرت الخطوط الرفيعة عن الطرق التي يتنقلون عبرها ودلت العقد تعاويذ لطرد الأذى والشر أما الخطوط العريضة فدلت على الطرق التجارية البرية، وصنعت الكوفية في تلك المناطق بالخيوط القطنية.
فأصبحت الكوفية تميز بين الصيادين ورعاة الماشية، وغدت موروثا ثقافيا وشعبيا للعرب وأهل الشام وبلاد الرافدين ومصر، فكان خروج الرجل حاسرا عن رأسه من الأمور المستهجنة التي تنقص من هيبته، وفي الفترة العثمانية أثرت الثقافة العثمانية على المنطقة وخاصة المدن فاستبدل أهل المدن الكوفية بالطربوش الأحمر واستمر الفلاحون والفقراء بارتداء الكوفيات بأنواعها.
وبعد خسارة الدولة العثمانية نفوذها على المنطقة العربية وقيام الثورة العربية الكبرى، تحولت الكوفية لرمز ثوري نضالي وطني، عندما ارتداها أعمدة الثورة آنذاك ليغطوا بها وجوههم لإخفاء هويتهم، فتنبهت القوات البريطانية إلى أن من يقوم بالتصدي لهم من الملثمين فبدأت بملاحقة كل من يرتدي الكوفية على اختلاف ألوانها، إلى أن أطلقت قيادة الثورة في فلسطين بيانها في شهر أغسطس 1938م بمنع لبس الطربوش في المدن، والزام الذكور بلبس الكوفية، فبدأ الباعة بالترويج لها بنداتهم الرنانة (الحطة والعقال ب5 قروش والنذل لابس طربوش)، وأقلع الجميع عن لباس الطربوش واستبدلوه بالكوفية.
خرجت الكوفية البيضاء والسوداء كوفية الكنعانيين والفينيقيين، صيادي الأسماك، مع الفلسطينيين المهجرين من مدنهم وقراهم عام النكبة 1948م لتصبح رمزا لهم يذكرهم بأرضهم ونضالهم وثوارهم، وفي الداخل الفلسطيني كانت هي نفسها غطاء الرأس للمناضلين والثوار الذين ظهروا على شاشات التلفاز يتلفحون بالكوفية البيضاء ويلقون الحجارة على عدوهم في انتفاضة الأولى1987م، والثانية 1993م، وتحولت لتصبح علما غير رسميا لفلسطين عندما منع الاحتلال الإسرائيلي رفع العلم الفلسطيني (1967م-1993م).
وفي 2023م وبعد السابع من أكتوبر تحولت الكوفية لرمز فلسطيني عالمي طغى على مظاهر الاحتجاجات في أنحاء العالم دعما للفلسطينيين ورفضا لحرب الإبادة العسكرية ضدهم.
ومن خلال السرد التاريخي للكوفية طرح العديد من التأويلات لأنماطها وألوانها، وظهرت عليها الرموز الثقافية والحضارية، فقد مزجت ألوانها الحيادية بين السواد والبياض وكأنه تناغم بين الليل والنهار فيما دل الخط العريض على البحر والخطان الرفيعان على النهران الكبيران تتوسطهما كروم الزيتون وأوراقها. وفي الوسط رسمت خطوط الصيد.
في حين دلت الكوفية الحمراء أو الشماخ إلى الشجاعة والقوة والتضحية وعكست البيئة الصحراوية فرمز اللون الأحمر لغروب الشمس في الصحراء ورمز اللون الأبيض للصفاء والنقاء والسلام ، ورمزت الأنماط المعقدة لتعويذة أو تميمة شتت قوى الشر وتضعفها. كما دلت على نسيج الحياة العربية المتشابكة والمتماسكة بمرونة في كل أنحائها.
أرهب هذا الارتباط التاريخي المتأصل القديم بين الفلسطيني والكوفية العد، ولفته تمسكه الشديد بها، فوضعها ضمن مخطط سرقاته وأساليب التهويد لاثبات اتصال مزيف بها واضافتها لقوائم سرقاته، فنشرت صحيفة جويش كورنيل اليهودية الصادرة في لندن عام 2006م صورة لفتاة إسرائيلية ترتدي كوفية للمصمم الإسرائيلي موشيه هاريل الذي غير لون الكوفية إلى الأزرق والأبيض وصمم تطريزها على شكل نجمة.
وفي عام 2015 م أقيم معرض في تل أبيب لمصمم الأزياء يارون مينوكوفسكي خلال ما أطلق عليه اسم أسبوع الموضة حيث ظهرت العارضات يرتدين فساتين مصنوعة من الكوفية بألوانها الأحمر والأبيض والأسود كرمز للتعايش بين الاسرائيليين والفلسطينيين، وقد أثارت هذه الخطوة غضبا شعبيا عارما، في الأوساط الفلسطينية وعند أصحاب الضمير الحي.
واتخذت السلطات الفلسطينية وغيرها من المؤسسات المهتمة بالتراث والهوية الوطنية والتي حملت على عاتقها حفظ الهوية وتطويرها ونقلها عبر الأجيال، عدة تدابير هامة لحفظ عنصر الكوفية وإظهار أهميته كرمز شعبي فلسطيني؛ فاتخذت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية قرارا باعتبار يوم السادس عشر من نوفمبر يوما للكوفية الفلسطينية وأصبح يوما وطنيا يتوشح فيه الفلسطينيون كوفياتهم.
كما أعلنت وزارة الثقافة الفلسطينية الأحد الموافق للسابع من نوفمبر 2024م ادراج الكوفية على قوائم التراث الثقافي غير المادي التابعة لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) ويعد هذا التسجيل انجاز وطني هام.
وبحلول القرن الحادي والعشرين أصبحت الكوفية قطعة من الأزياء الرائجة التي يتزين بها الشباب وحتى الشابات فظهرت على منصات عارضات الأزياء العالمية بتصاميم حديثة ومبتكرة.
فالكوفية ليست منتجا جاهزا رأى الشعب الفلسطيني به نفسه فقرر استخدامه، وليست عنصرا ثقافيا متأثرا بما مر على أرض فلسطين من ثقافات، ولم يتم تصديره وتحريفه عن أي من الشعوب، انما هو نتاج تاريخ طويل بدأ مع المجتمعات التي عاشت على الأرض العربية والمصرية وامتد إلى الشعوب الكنعانية والفينيقية، وتناقلته الأجيال ليحمل بصمة كل منها حت وصل إلى ما هو عليه اليوم، لنضيف بصمتنا الثقافية والنضالية والوطنية ونرسلها لأجيال غدنا عنصرا تراثيا تاريخيا ورمزا ثوريا وطنيا،
ورسالة سياسية وعسكرية ونفسية تحمل معاني القوة والشجاعة والشرف والنضال والاعتزاز بالهوية والأجداد والانتماء.