بعض أدعياء العقلانية يريدونها فوضى تؤدى إلى شرائع متعددة الأفهام والأشخاص
يجب تحرك العلماء والمؤسسات العلمية لدفع الأضرار الناتجة عن العبث بالسنة
ابن المبارك كان يقول: الإسناد من الدين.. ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء
حديث الإسراء والمعراج في مقدمة الأحاديث الصحيحة بل المتواترة
المرجعية تحمي الفهم من الجمود.. وتحميه كذلك من الفوضى
“من عادى لى وليا..” حديث صحيح وليس من الإسرائيليات
سلفنا الصالح بذلوا جهودا
مضنية في تحقيق السنة
والتحقق من صحة المرويات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أجرى الحوار:
إبراهيم نصر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أكد الدكتور محمد نصر الدسوقى اللبان أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر الشريف أن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظ السنة النبوية المطهرة بالتبعية لحفظ كتابه العزيز “القرآن الكريم”، وأنه لا يمكن الاكتفاء بألفاظ الحديث وحدها في فهم المراد النبوي الشريف، مشيرا إلى أن غير المتخصصين تجرأوا على تفسير النصوص الشرعية على غير هدى فأتوا بالعجائب والغرائب.
أضاف فى حواره مع “عقيدتى”: إن بعض أدعياء العقلانية يريدونها فوضى تؤدى إلى شرائع متعددة الأفهام والأشخاص دون سند من علم صحيح، ولا إسناد إلى عالم معتبر، وابن المبارك كان يقول: الإسناد من الدين.. ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. لذا يجب تحرك العلماء والمؤسسات العلمية لدفع الأضرار الناتجة عن العبث بالسنة، بل بالشرع الحنيف كله.
أكد أن حديث الإسراء والمعراج في مقدمة الأحاديث الصحيحة بل المتواترة، وأن النصوص الشرعية يصدق بعضها بعضا ويفسر بعضها ما أشكل في غيره، موضحا أن المرجعية تحمي الفهم من الجمود.. وتحميه كذلك من الفوضى، وعن حديث: “من عادى لى وليا..” قال إنه حديث صحيح وليس من الإسرائيليات، وإن سلفنا الصالح بذلوا جهودا مضنية في تحقيق السنة والتحقق من صحة المرويات.
وإلى نص الحوار:
التحقق من ثبوت الحديث
· هل تكفل الله بحفظ السنة كما نص فى قرآنه الكريم على حفظ آيات القرآن الكريم؟.
** نعم.. كما تكفل الله بحفظ كتابه، فقال سبحانه: “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”، كذلك سنة النبي صلي الله عليه وسلم محفوظة بالتبعية للكتاب؛ لأنها مبينة له، وشارحة له، لقوله تعالي: “وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إلهم ولعلهم يتفكرون”. لذا لا يمكن تمام فهم القرآن الكريم إلا بالسنة النبوية، ولا تتحقق طاعة الله تعالى إلا باتباع كتابه العزيز، واتباع سنة نبيه صلي الله عليه وسلم، ولتحقيق ذلك أمر النبي صلي الله عليه وسلم بالتبليغ عنه فقال صلى الله عليه وسلم: “بلغوا عني ولو آية”، وحث صلى الله عليه وسلم علي الضبط عنه فقال: “نضر الله امرأً سمع منا حديثا، فحفظه حتي يبلغه غيره؛ فرب حامل فقه إلي من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه” .
بل حذر النبي صلي الله عليه وسلم من القول عليه بغير علم أو تثبت؛ فقال صلى الله عليه وسلم: “من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار”، وقال صلى الله عليه وسلم: “من حدث عني بحديث يري أنه كذب فإنه أحد الكاذبين”. لذا حظيت أحاديث النبي صلي الله عليه وسلم بكل عناية، لكن لما كان الأعم الأغلب من حديث النبي صلي الله عليه وسلم منقولا عن طريق الآحاد فإنه يعتري النقل عنه ما يعتري الآحاد من الناس من آفات الخطأ والنسيان، بل يعتريه أيضا التعدي بالكذب والوضع، لذا وقع في الروايات الصواب والخطأ، ونسب إلي النبي صلي الله عليه وسلم ما لا يثبت عنه.
وقد بذل سلفنا الصالح من لدن صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم جهودا مضنية في تحقيق صحة النقل عن النبي صلي الله عليه وسلم، وأسسوا منهجا علميا
في التحقق من صحة المرويات.
لازم عقلا وواجب شرعا
· هل يلزم التحقق من ثبوت صحة النقل عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل العمل بالحديث النبوى الشريف؟.
** لما كانت الحجة خاصة بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كان من اللازم عقلا ، والواجب شرعا على الراغب في معرفة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتوجه للعمل بسنته أن يتحقق من ثبوت صحة النقل عنه صلى الله عليه وسلم، وأن يتوجه بالدراسة إلى متن الحديث، وإلى طريق وصوله إلينا، ذلك أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم نقله عنه صحابي، ثم حدث به صحابي غيره، ثم تسلسل النقل من راو إلى آخر، فأصبح الحديث مكونا من جزأين: الطريق الموصلة إلى المتن، وهي سلسلة الرواة، التي اصطلح على تسميتها بسند الحديث، والجزء الآخر ما ينتهي إليه السند من الكلام، وهو ما يسمى بالمتن.
أصل من أصول التشريع
· هل السنة النبوية المطهرة أصل من أصول التشريع أو يمكن الاكتفاء بالقرآن الكريم؟.
** إن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصل من أصول التشريع الإسلامي، وقد عني به الصحابة رضي الله عنهم، ومن بعدهم من علماء الأمة، وأن العلماء قد بذلوا جهودا كبيرة؛ لرسم قواعد يمكن من خلالها فهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما صحيحا، والوقوف على مراده صلى الله عليه وسلم. وقد كانت هذه القواعد محل عناية العلماء، أضفوا عليها من خلال بحوثهم وتطبيقاتهم ما زادها أصالة وقوة ورسوخا. والأخذ بهذه القواعد عاصم بأمر الله من الشطط في فهم السنة النبوية، وهو من الأهمية بمكان، وتزداد أهميته في هذا العصر الذي كثرت فيه المستجدات والنوازل التي تحتاج من المتخصصين ومن المجامع العلمية إعمال النظر في الأدلة الشرعية؛ للكشف عن الأحكام الشرعية فيها.
ومما يؤكد هذه الحاجة تجرؤ غير المتخصصين على الخوض في تفسير النصوص الشرعية على غير هدى، وبما لا يتفق مع أصول الفهم الصحيح، بل خاض في ذلك غير المسلمين، والمغرضون، وأظهروا أقوالهم وآراءهم، ونشروها على صفحات الكتب والصحف، وفي وسائل الإعلام والمنتديات، الأمر الذي يستوجب تحرك العلماء والمؤسسات العلمية، وتناصرهم وتظاهرهم في دفع الأضرار الناتجة عن هذا العبث، من خلال بيان المنهج العلمي في تفسير النصوص الشرعية وإظهاره، ومن خلال تبني منظومة من البرامج تهدف إلى أن يصبح هذا المنهج جزءا من ثقافة المجتمعات المسلمة، ووسيلة لتحصين المسلمين من المفاهيم الخاطئة.
جمع القرائن
· هل يمكن لأحد أن يجزم بمراد رسول الله فيما صح عنه من الأحاديث؟.
** إن تفسير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيان معناه يعني الحكم بأن هذا التفسير، وذلك المعنى هو ما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم من كلامه، وهو الذي رام إبلاغه للسامع، فهو رواية عنه بالمعنى، وشهادة عليه بأنه يعني بكلامه كذا وكذا، وتوقيع عنه في أحكامه، وهذا أمر لا يمكن أن يجزم به إنسان إلا أن يحصل على إقرار من الرسول صلى الله عليه وسلم. ولتعذر الحصول على هذا الإقرار بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن السبيل إلى إدراك قصده هو جمع القرائن التي يحصل بها ظن غالب أن هذا هو المعنى الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم.
· وماذا تقصد بجمع القرائن، وهل يكون مظنة الفهم الصحيح لمعنى حديث النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرهونا بجمع هذه القرائن؟.
** أولا يمكن أن نقسم هذه القرائن إلى قسمين، الأول: هو اللغة، والقسم الثاني: هو النصوص الشرعية الأخرى. فاللغة: هي الوسيلة التي يُنقل بها الكلام، والقوالب التي تسكن فيها المعاني، ومن البدهيات أنه لا يمكن فهم الكلام ولايمكن استيعاب دلالته سواء كان منطوقا أو مكتوبا إلا بمعرفة لغة الخطاب، والتمكن من لسان المتكلم أو الكاتب، كي يدرك معاني الكلمات والأجزاء والمركبات التي انتظمت في المقال المكتوب، أو المنطوق، وهذا الإدراك هو بداية الطريق إلى معنى الخطاب، وجزء من أجزاء فهم النص، ومع أهمية هذا الإدراك إلا أنه ــــ في كثير من الأحيان ــــ لا يكفي في معرفة قصد المتكلم؛ لأنه لا يفيد إلا المعنى الظاهر للخطاب، وقد لا يكون هو المعنى الذي يقصده صاحب الخطاب. وفى هذا يقول الإمام ابن العربي: “ليس كل محتمل للفظ مرادًا به فيه، وهذا من نفيس علم الأصول”، ويقول الإمام الشاطبي: “فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض إلا في موطن واحد وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان العربي وما يقتضيه لا بحسب مقصود المتكلم”. وبناء عليه فإن الدلالات التي تحتملها ألفاظ الأحاديث النبوية، ولم يقصدها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يصح أن يُفسر بها كلامه، ولا يصح أن يقال هي معنى كلامه صلى الله عليه وسلم.
اللغة وحدها لا تكفى
· وما أسباب عدم الاكتفاء باللغة في فهم النص النبوي؟.
** أولا: يرجع سبب عدم الاكتفاء ـ في كثير من الأحيان ـ بدلالة الألفاظ والتركيبات اللغوية على إدراك قصد المتكلم إلى أمور أهمها: طبيعة اللغة، وما تضمنته من الخصائص التي تجعل النص من اللغة لايستقل بذاته ولا يكتفي بنظام اللغة وقوانينها للإفصاح عن المراد، ففي اللغة ـ على سبيل المثال ـ أنواع من الخطاب لها أكثر من معنى، كاللفظ المشترك الذي وضع لأكثر من معنى، ومنه أيضا وجود المجاز والحقيقة. ولاشك أن الناظر لمعرفة أي النوعين استعمله المتكلم، يحتاج إلى عناصر خارجة عن مبنى الخطاب. صحيح أن السياق يوضح المعنى في أحيان كثيرة، لكن الصحيح أيضا أنه في أحيان كثيرة أخرى لا ينفي الاحتمال.
ثانيا: طبيعة الحديث النبوي الشريف، فهناك عددا من السمات المؤثرة في فهم النص النبوي من حيث اللغة من أهمها:
1ـــ فصاحة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقوة بيانه، فالرسول صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، ويستخدم لغة فنية رفيعة، وقد أوتي جوامع الكلم، أي أنه ينطق بكلمات قليلة فيها المعاني الكثيرة، وبناء على ذلك فإن التفسير اللغوي المعجمي لألفاظ كلامه لا يمكن أن يعطي جميع المعاني التي قصدها.
2 ـــ إن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بلغته العربية في أحوال مختلفة، ومقامات متباينة، فيأتي كلامه وخطابه مناسبا لظروفه وملابساته، وعلى وفق ما يقتضي المقام. وبسبب شدة ارتباطه بالمقام لا يمكن الاكتفاء بألفاظ الحديث وحدها في فهم المراد.
3 ــ إن الحديث قد يكون فعلا، وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم وتصرفاته في المواقف التي تعرض له يحكيها أصحابه رضي الله عنهم ممن شهد وحضر، وقد ينقل الصحابي جزءا من الصورة، بينما ينقل آخر جزءا آخر، فلا يمكن أن تكتمل الصورة إلا باستيعاب جميع الأجزاء من جميع الروايات.
نصوص متكاملة
· وكيف يكون فهم المتن في ضوء النصوص الشرعية الأخرى؟.
** إن النصوص الشرعية من أقسام القرائن التي يُستدل بها على معنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم. ونقصد بالنصوص الشرعية كل النصوص التي لها علاقة مؤثرة في معنى النص الذي يراد بيان معناه، سواء كانت هذه العلاقة قريبة أم بعيدة، فتشمل آيات القرآن الكريم، وروايات الحديث، والأحاديث الأخرى، وما يلحق بذلك من المعاني المعلومة من الدين بالضرورة التي بنيت في الأساس على نصوص من الكتاب والسنة، ذلك أن النصوص الشرعية نصوص متكاملة، يصدق بعضها بعضا، ويبين بعضها ما أجمل في الآخر، ويفسر بعضها ما أشكل في غيره، وفهم الحديث النبوي في ضوء هذه النصوص، مطلب أساسي مسلم به في منهج المعرفة.
فهم الصحابة للنصوص
· كيف كان يفهم الصحابة رضي الله عنهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم فى ظل هذه الضوابط؟
** لقد كان هذا المنهج التكاملي في فهم الحديث حاضرا عند الصحابة رضي الله عنهم، فقد وظفوا مجموع ما تلقوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم في فهم كل قول من أقواله، وفي تفسير كل فعل من أفعاله صلى الله عليه وسلم. وتتجلى نتائج هذا المنهج في ممارساتهم وتطبيقاتهم العملية، نرى هذا الفهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلي الله عليه وسلم لما رجع من الاحزاب: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم لا نصلي حتي نأتيها، وقال بعضهم بل نصلي لم يُرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلي الله عليه وسلم، فلم يعنف واحدا منهم. فالصحابة الذين صلوا قبل أن يصلوا إلى بني قريظة نظروا خارج النص والآخرون تمسكوا بحرفية النص.
تصنيف الأحاديث
· هل سار التابعون ومن بعدهم على هذا النهج فى فهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟.
** نعم.. على هذا المنهج سار التابعون ومن بعدهم، وظهر واضحا في دواوين كتب السنة المصنفة على الأبواب التي تجمع في الباب الواحد الأحاديث المتعلقة به على اختلاف ألفاظها وطرقها. ومن شأن هذا التصنيف أن يعين على حسن فهم الحديث. وخير مثال على هذه الطريقة: صحيح الإمام مسلم، وربما سلك بعض أصحاب هذه المصنفات طريقة للعرض بأن يجمع في الباب الروايات الواردة في الموضوع الواحد، ويحاول درأ التعارض الحاصل بينها أو التضاد، وذلك بأن يسوق الحديث ثم يسوق عقبه حديثا آخر أو عدة أحاديث تقيد مطلقه، أو تخصص عامه، مترجما لكل رواية بما يناسبها، وخير مثال على هذا: صحيح ابن حبان الذي يرى أن التعارض الذي يتوهمه البعض بين الأحاديث ناشئ عن عدم إحكام صنعة الحديث.
منظومة متكاملة
· هل وضع علماء الأحاديث من القواعد والأصول ما يرسخ هذا المنهج على مر العصور؟.
** لقد خدم العلماء هذا المنهج برسم قواعده وتأصيلها، وبذلوا في ذلك جهودا تمخضت عن عدد من العلوم الإسلامية تمثل منظومة متكاملة تساعد على فهم الحديث الشريف فهما مؤيدا بالقرائن التي يغلب معها الظن أنه هو الفهم الصحيح الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هذه العلوم: علم مختلف الحديث، ناسخ الحديث ومنسوخه، غريب الحديث، ثم علم مقاصد الشريعة.
كما ظهرت مجموعة من المباحث المتفرقة في علوم الحديث، كمباحث الشواهد والمتابعات، وزيادة الثقة، وأسباب ورود الحديث، ومباحث أخرى في علم أصول الفقه، كالقياس، والتعارض والترجيح، ومباحث الدلالة والسياق.
ويمكن تطبيق هذه المعايبر في فهم النصوص في كل عصر، ويمكن من خلالها الاستفادة من النصوص الشرعية بإعطاء حلول للمشكلات المعاصرة، والتعامل مع صور الحياة المتجددة على نسق منتظم مع اجتهادات العلماء، واستنباطات سلف الأمة، وهذه المرجعية تحمي الفهم من الجمود من جهة، كما تحميه من الفوضى من جهة أخرى، تحميه من جمود المدرسة الظاهرية التي تقف عند ظاهر النص، وترفض القياس والتعليل، فتقصر عن إدراك المعاني غير المنصوص عليها، وتعجز عن إعطاء أحكام لمستجدات الحياة.
الظاهرية والعقلانية
· فى مقابل المدرسة الظاهرية نجد المدرسة العقلانية التى تتمرد على فهم السلف الصالح للنصوص الشرعية فما خطورة ذلك؟.
** بعض أصحاب النزعة العقلانية التي تتمرد على فهم السلف، ولا ترضى بقواعدهم في الفهم والاستنباط، بل يتطرف بعضهم فيقول في النصوص الشرعية ما يقوله بعض أصحاب النقد الغربي المعاصر أنه لا يوجد معنى واحد للنص، وأن المعنى يتشكل مع كل قارئ، بل مع كل قراءة، فقد يقدم القارئ الواحد للنص اليوم معنى يختلف عن المعنى الذي يقدمه له غدًا اختلاف تضاد، فلا يحتكمون إلى معيار، و بناء على ذلك يستطيع كل إنسان أن يدعى أي معنى لأي لفظ أو نص من النصوص، و هذه فوضى تؤدي إلى نتيجة حتمية هي إلغاء النصوص الشرعية، وإيجاد شرائع جديدة تتعدد بتعدد الأفهام والأشخاص.
معرفة الحديث الموضوع
· هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير أن ينظر في سنده؟.
** قد سئل الإمام ابن القيم مثل هذا السؤال، فأجاب قائلا: هذا سؤال عظيم القدر، وإنما يعلم ذلك من تضلع في معرفة السنن الصحيحة، واختلطت بلحمه ودمه، وصار له فيها ملكة، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه فيما يأمر به، وينهى عنه، ويخبر عنه، ويدعو إليه، ويحبه ويكرهه، ويشرعه للأمة بحيث يكون كأنه مخالط للرسول صلى الله عليه وسلم كواحد من أصحابه، فمثل هذا يعرف من أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه وكلامه وما يجوز أن يخبر به، وما لا يجوز ما لا يعرفه غيره. وهذا شأن كل متبع مع متبوعه؛ فإن للأخص به الحريص على تتبع أقواله وأفعاله من العلم بها، والتمييز بين ما يصح أن ينسب إليه وما لا يصح، وهذا شأن المقلدين مع أئمتهم يعرفون أقوالهم ونصوصهم ومذاهبهم.
ضوابط محددة
· هل وضع علماء الحديث ضوابط محددة لتوثيق متن المرويات عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.
** إن منهجية المحدثين في طلب الإسناد ودراسته تقوم على عدم التسليم بالرواية إلا إذا قام الدليل الذي يغلب معه ثبوت نسبتها إلى قائلها. وقد بلغت هذه المنهجية الغاية في الدّقة العلمية في توثيق الروايات، وتمييز بعضها عن بعض بالفوارق اليسيرة، واستطاع العلماء النقاد تمييز كل متن ، وكل لفظة لم يقم الدليل على ثبوتها. ويتأسس الفهم الصحيح والتصور الواضح لمنهجية المحدثين في التحقق من ثبوت المتن من خلال دراسة الإسناد بالوقوف على الشروط الواجب توفرها في الرواية المقبولة. ومجموع هذه الشروط ستة، هي: العدالة، والضبط، واتصال السند وانتفاء الشذوذ، وانتفاء العلة القادحة، وخلاصة القول: إن من الثابت، ومن المعلوم بالضرورة أن السنة هي الأصل الثاني للتشريع، وإن أول ما يجب على المستدل بالحديث والمتعامل معه أن يتحقق من صحة نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
الاستفادة من التقنيات الحديثة
· كيف يمكن الاستفادة من التقنيات الحديثة فى خدمة هذه العلوم وتلك القواعد؟
** إن منهج المحدثين في رواية السنة، وقواعدهم في الحكم على الأحاديث قبولا أو ردا هو المنهج الذي نقلت إلينا به السنة، ولا يسع المتأخرين أن يقرروا في تمييز المقبول والمردود من المرويات منهجا آخر يتنكر للقواعد التي قعدها المحدثون، وإنما الرشاد في السير على نهجهم، وبذل الجهد في فهم طرائقهم في القبول والرد، وإن كان من تطوير ففي وسائل الفهم والنقل، والاستفادة مما وصل إليه الإنسان، أو سيصل إليه من تقنيات حديثة تخدم هذا العلم، وتلك القواعد وتسهل جمعها، وتذلل كثيرا من وعورة البحث في الكتب والمخطوطات، وتختصر على الباحث الوقت والجهد.
حديث الإسراء والمعراج
· ما أهم الشبه المثارة حول حديث الإسراء والمعراج، وكيف ترد عليها؟
** إن أعداء السنة المشرفة بل أعداء الإسلام قد جعلوا مراجعة سيدنا موسى عليه السلام لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في تخفيف الصلوات على أمته في الحديث الصحيح الوارد في الإسراء والمعراج من الإسرائليات والموضوعات، وقالوا: من يعتقد صحة ذلك فهو من الطوائف الضالة، ومن الجهلة، وللرد على هذه الشبهة ونفنيدها نقول وبالله التوفيق:
أولا: الرمي بالقول على عواهنه دون حجة أو برهان لا يليق بالباحث المنصف، فأين الدليل العلمي على أن حديث الإسراء والمعراج من الموضوعات والإسرائليات؟.
ثانيا: لو كان حديث الإسراء والمعراج مرويًا عن كعب الأحبار أو عن غيره ممَنْ عرف بالأخذ عن بني إسرائيل لجاز في العقل أن يكون ذكر سيدنا موسى عليه السلام من دسهم، ومن تزويرهم.
ثالثا: إن حديث الإسراء والمعراج بموازين المنهج العلمي في مقدمة الأحاديث الصحيحة بل المتواترة؛ فهو مروي عن خمسة وعشرين صحابيا رضي الله عنهم أجمعين، والروايات الواردة فيه متواترة، رواها جمع عن جمع عن جمع من أول السند إلى منتهاه، بحيث يستحيل اتفاقَهم على الكذب.
رابعا: هل تقتضي مراجعة سيدنا موسى عليه السلام لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كي يخفف الله تعالى عن أمته الصلوات في حديث الإسراء والمعراج أن يكون من الإسرائليات؟. ولو سلمنا بذلك، لكانت كل الأحاديث التي تذكر فضيلة لنبي من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام من الإسرائليات، وهذا لايقوله عاقل فضلا عن باحث.
خامسا: الأولى والأجدر والأحرى بأعداء السنة النبوية المطهرة أن يبحثوا عن الأسرار والحِكَم في مراجعة سيدنا موسى عليه السلام لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كي يخفف الله سبحانه وتعالى عن أمته عدد الصلوات بدل التشكيك فيها.
سادسا: أيُّ ضير في أن يُعْلِمَ سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام ما سبق من تجربته مع بني إسرائيل مما خفي أمره على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حتى أشار عليه بالرجوع إلى ربه؛ لطلب التخفيف حتى يرتب أعداء الإسلام عليه نفي علم الله تعالى بمبلغ احتمال الأمة وقدرتها على أداء الصلوات قبل التخفيف.
سابعا: إن الله عز وجل يعلم كل ما كان، وما يكون، وما سيكون، وما هو كائن إلى يوم القيامة، ويعلم عز وجل أن نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم سيسأله التخفيف، وبسبب ذلك السؤال ستخفف الصلاة من الخمسين إلى الخمس.
شق الصدر
· البعض يشكك فى أحاديث شق صدر النبى صلى الله عليه وسلم، فما قولك؟
** إن قصة شق الصدر ثابتة بالأحاديث الصحيحة، وقد وقع ذلك مرة فى صغره، وهو عند مرضعته السيدة حليمة السعدية، ومرة أخرى: عند الإسراء والمعراج، وهى ثابتة فى الصحيحين، بل قيل بحصول الشق فى غير هاتين المرتين، وتكرره إنما كان لتجديد استعداده صلى الله عليه وسلم؛ لما يلقى إليه من الوحي الفينة بعد الفينة، وقال الحافظ ابن حجر فى الفتح: “وقد استنكر بعضهم وقوع شق الصدر ليلة الإسراء وقال: إنما كان ذلك، وهو صغير في بنى سعد، ولا إنكار فى ذلك، وقد تواردت الروايات، وثبت شق الصدر أيضا عند البعثة، كما أخرجه أبو نعيم فى الدلائل.
ليس من الإسرائيليات
· حديث: “من عادى لى وليا فقد آذنته بالحرب..” لماذا يدعى البعض أنه من الإسرائيليات؟.
** قال أعداء السنة النبوية المطهرة: من له حاسة فى شم الحديث يجد فى هذا الحديث رائحة إسرائيلية، أي: أن هذا الحديث موضوع ومختلق ومكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم. ودليل ذلك عندهم: أن الإمام البخارى تفرد بإخراجه دون الإمام مسلم، وللرد على هؤلاء أقول: إن هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، ولا يُخِل بصحته أن كان بعض رجاله قد انتُقِدوا وهو: خالد بن مخلد شيخ الإمام البخاري؛ لأن الإنسان أعرف بشيوخه من غيره، وإذا تعارض قول الإمام البخاري في رجل مع قول غيره فالقول ماقاله الإمام البخاري؛ فقد كان نسيجا وحده في معرفة علل الحديث، وتاريخ الرجال. ثم إن الحديث، وان لم يروه الإمام مسلم في صحيحه، ولا الإمام أحمد في كتابه: المسند، فقد رواه غيرهما من أئمة الحديث، مثل الإمام البيهقي في كتابه: الزهد، والإمام أبو يعلى في كتابه: المسند، والبزاز في كتابه: المسند، ورواه الإمام الطبراني في معاجمه، بل أخرجه الإمام أحمد نفسه في كتابه: الزهد، ولم ينفرد برواية هذا الحديث الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه، بل رواه غيره من الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم: السيدة عائشة أم المؤمنين، وعلي، وأبو أمامة، وابن عباس، وأنس، وحذيفة، ومعاذ بن جبل، رضي الله عنهم أجمعين، وقد رواه كثيرون من طرق أخري كثيرة، ولكنها يقوي بعضها بعضا، وقد صدع بهذا الحافظ ابن حجر، وشرع يعدد هذه الطرق، ومن أخرجها، ومن رويت عنه، وبهذا يتبين أن الحديث لا مطعن في سنده.