بقلم د. حنان شبانة
أستاذ مساعد بجامعة تبوك سابقآ
قال الله تعالى: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف: 76)، تذكرنا هذه الآية بحقيقة أن علم الإنسان، مهما بلغ، يظل محدودا. وفي السياق ذاته، يعزز الحديث الشريف:” إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر” (رواه البخاري ومسلم)، قيمة الاجتهاد البشري وأجره، حتى في ظل الأخطاء المحتملة. هذه المبادئ تنعكس بوضوح في عالمنا اليوم، الذي يتسم بتسارع التطور التكنولوجي، حيث تفتح التقنيات الحديثة أبوابا جديدة لاستكشاف أدوات مبتكرة تخدم حياة المسلمين بطرق غير مسبوقة.
وسط هذا الزخم التقني، يبرز سؤالا مهما: كيف يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي لتحسين وتطوير عملية الإفتاء؟
الإفتاء، باعتباره أحد الركائز الأساسية التي توجه المجتمعات الإسلامية، يواجه تحديات متزايدة تتمثل في الجمع بين الأحكام الشرعية الراسخة والاحتياجات العصرية المتجددة.
ومع تقدم الذكاء الاصطناعي، تظهر فرصا واعدة لإحداث نقلة نوعية في مجال الإفتاء من خلال تعزيز سرعة إصدار الفتاوى ودقتها، إلا أن هذه الإمكانات تثير تساؤلات عميقة حول مدى قدرة هذه التقنية على الحفاظ على روح النصوص الشرعية ومصداقيتها. وكما قيل:” المشكلة لا يمكن حلها بنفس العقلية التي أوجدتها”، مما يدفعنا للتفكير في كيفية التوفيق بين عبقرية الإنسان وابتكارات الذكاء الاصطناعي.
لطالما مثلت الفتوى دعامة أساسية للمسلمين في توجيه حياتهم اليومية بما يتماشى مع الشريعة الإسلامية. ومع ظهور الذكاء الاصطناعي، تبرز فرصة فريدة لتسريع دراسة النصوص الشرعية، وتقديم إجابات دقيقة للقضايا المستجدة. ومع ذلك، فإن هذه الفرصة لا تخلو من التحديات؛ إذ إن قضايا الإفتاء تتطلب قدرا كبيرا من الاجتهاد الإنساني والمرونة الفكرية، وهو ما قد يكون بعيد المنال بالنسبة للآلات. هنا يظهر دور الإشراف البشري في ضمان توافق هذه الأدوات مع القيم الإسلامية واحتياجات المجتمع، مما يعزز دور التقنية كوسيلة مكملة وليست بديلة. الذكاء الاصطناعي، بما يعتمد عليه من تقنيات التعلم الآلي وتحليل النصوص الضخمة، يمكنه تقديم استجابات شرعية سريعة، خاصة في المناطق التي تعاني من نقص علماء الإفتاء. غير أن هذه الأنظمة تواجه قصورا في فهم السياقات الاجتماعية والنفسية المحيطة بالقضايا، مما يجعلها غير كافية لمعالجة المسائل الدقيقة التي تحتاج إلى اجتهاد بشري عميق. بالإضافة إلى ذلك، فإن الاعتماد على مصادر بيانات غير موثوقة لتدريب الأنظمة يمكن أن يؤدي إلى نتائج غير دقيقة أو حتى خاطئة، ما يؤكد الحاجة إلى رقابة صارمة.
ورغم التحديات، فإن للذكاء الاصطناعي مزايا واعدة، أبرزها تخفيف العبء عن المفتين من خلال معالجة القضايا الروتينية، وتسريع إصدار الفتاوى، وتوسيع نطاق الإفتاء ليصل إلى أماكن نائية. هذه المزايا تظهر إمكانات الذكاء الاصطناعي في تقديم حلول مبتكرة، لكنها تتطلب وجود آليات صارمة للتأكد من دقة البيانات المستخدمة. تجارب عدة في بعض مراكز الإفتاء أكدت فائدة هذه التقنية، لكنها أظهرت أيضا أن الرقابة البشرية المستمرة ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها.
في المقابل، تبقى التحديات قائمة، أبرزها غياب الاجتهاد الشخصي الذي يتميز به العلماء عند مواجهة قضايا معقدة وحساسة. فالذكاء الاصطناعي يفتقر إلى البعد الإنساني؛ إذ إن الفتوى ليست مجرد إجابة شرعية، بل عملية تفاعلية تأخذ في الاعتبار الظروف الاجتماعية، والنفسية للسائل. أضف إلى ذلك أن ضعف البيانات أو عدم موثوقيتها قد يؤدي إلى نتائج تشوه روح الشريعة الإسلامية. هذه التحديات تبرز أهمية توجيه التقنية لتكون أداة مساعدة، بحيث تبقى الفتوى راسخة في جوهرها الإنساني والديني.
ختاما، في عالم يعتمد بشكل متزايد على التكنولوجيا، يمثل الذكاء الاصطناعي فرصة لتحسين عمليات الإفتاء، بشرط أن تدار بحرص ووعي للحفاظ على القيم الإسلامية الأصيلة. وكما قال الله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ (سورة المجادلة: 11)، فإن الجمع بين العلم والإيمان هو مفتاح تحقيق التوازن بين الحداثة وروح الإسلام. ولعل الحديث الشريف:”إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه” (رواه أبو يعلى) ، يلهمنا لتحسين هذه الأدوات بما يخدم الإنسانية دون المساس بجوهر الدين.
يبقى السؤال الأهم: هل نستطيع تحويل التقنية إلى وسيلة تعزز القيم الإسلامية بديلا عن أن تطغى عليها؟ الإجابة تبدأ من جهودنا نحن كأفراد ومؤسسات، وعلينا أن نثبت أننا قادرون على توظيف هذه الأدوات لخدمة ديننا ومجتمعاتنا، واضعين نصب أعيننا هدف تحقيق توازن مستدام بين الأصالة والابتكار.