بقلم: د. عبدالله عبدالنبي الجنش
مدرس الفقه المقارن بجامعة الأزهر
الفتوى أمانة، والمفتي خليفة النبي في أداء وظيفة البيان للناس، وقد تولى هذه الخلافة بعد النبي أصحابه الكرام رضوان الله عليهم، ثم أهل العلم بعدهم، والإفتاء بغير علم حرام شرعًا، وجريمة في حق المجتمع؛ لأنه يتضمن الكذب على الله تعالى ورسوله، ويتضمن إضلال الناس بالباطل، وعزوفهم عن الحق، وهو من الكبائر التي حرّمها الله( في كتابه الحكيم؛ لقوله: ” قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ” الأعراف: ٣٣، فقرن القول على الله بغير علم بالفواحش والبّغي والشّرك، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» رواه البخاري.
فمن أفتى الناسَ بغير علم كان آثمًا عاصيًا؛ لذا حذّر الله من القول عليه بغير علم وبرهان، وتوعّد فاعله بعذاب الله في الآخرة، حيث قال الله: “وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” النحل: ١١٦ ،١١٧.
وأكّد على ذلك رسول الله في حديثه الصحيح، حيث قال: “مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ، فَلْيَتَبَوَّأْ بُنْيَانَهُ فِي جَهَنَّمَ، وَمَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ”. رواه الحاكم في المستدرك.
مِنْ أجل ذلك كثر النّقل عن السّلف الصالح أنه إذا سُئل أحدهم عمّا لا يعلم أن يقول للسائل: (لا أدري)، وقد نقل ذلك عن ابن عمر – رضي الله عنهما – والقاسم بن محمد، والشّعبي، والإمامان مالك، وأحمد وغيرهم؛ ومن ذلك ما قاله أبو الحَصِين الأسدي: “إن أحدهم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر”.
وكان الإمام مالك – رحمه اللَّه – يقول: من سُئل عن مسألة فينبغي له قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فيها”.
وسُئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له ألا تستحيي من قولك: لا أدري، وأنت فقيه أهل العراق؟ فقال: لكن الملائكة لم تَسْتَحِ حين قالوا: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32]
والذي يفتي الناس بغير علم جاهل ويفتري على الله الكذب يستحق أن يُحْجَر عليه، وذلك بمنعه من الإفتاء، قال ربيعةُ الرأي: ولَبعضُ من يفتي ها هنا أحق بالسّجن من السُرَّاق. وقال ابن الجوزي: يلزم ولي الأمر منعهم – أي من الفتيا – كما فعل بنو أمية.
فيجب على المُسْتَفْتِي إن كان في رَيْبٍ – شَكٍّ – من شيء أن يسأل أهل العلم من المختصين عن فَتْوَاه، أو ما أشكل عليه، ولا يسأل غيرهم حتى لا يهلك بفتوى مَنْ لَا يَعْلَم فيضر نفسه وَيُسِيءُ لمجتمعه، قال تعالى:” وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ” النحل: ٤٣. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الرَّجل الذي شُجَّ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ، وأَمَرَهُ الصحابة بالاغتسال، فمات من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:”.. أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا إِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ”. والعِيّ: الجَهْل. رواه أحمد، والبيهقي وغيرهما.