بقلم: د حنان شبانة
أستاذ مساعد بجامعة تبوك سابقا
في مطلع الحديث عن يوم عرفة، تتجلى كلمات الله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖأُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖفَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186]، ويتردد صدى قول النبي صلى الله عليه وسلم: “أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة: وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي:” لا إله إلا الله وحده لا شريك له”. ( رواه الإمام مالك في الموطأ).
فهذا اليوم المميز يشكل لحظة روحية تتجاوز حدود الزمان والمكان، حيث تتصل الأرض بالسماء، وتلين القلوب في حضرة العفو والمغفرة. إنه يوم يفيض بالسكينة والخشوع، تشرئب فيه الأرواح نحو الرحمة، ويتحرر فيه الإنسان من ضجيج العالم الخارجي، ليعود إلى جوهر علاقته بربه.
غير أن هذا العالم الخارجي لم يعد كما كان في السابق؛ فقد غزت التقنيات الرقمية كل جانب من حياتنا، متغلغلة في تفاصيلها بسلاسة وسرعة. وفي خضم هذا الاندماج بين الإنسان والتكنولوجيا، يبرز يوم عرفة كلحظة تأملية تعيد ترتيب الأولويات، تدعو الإنسان للعودة إلى ذاته، وتوقظ فيه التفكر العميق في معنى وجوده.
فبين بريق الشاشات وتنازع التنبيهات، يتصاعد تساؤل حقيقي: هل تستطيع التقنية أن تكون عونا في طريق الصفاء، أم أنها تسرق منا لحظاتنا الأقدس دون أن نشعر؟
وهنا تبرز أهمية النظر إلى التقنية لا كعدو للروح، بل كأداة قابلة للتوجيه، فالقيمة الحقيقية لا تكمن في الأدوات بحد ذاتها، بل في الكيفية التي نستخدمها بها، والغايات التي نخدمها من خلالها. وهذا يدفعنا إلى التفكر في إمكانية تحويل هذه الوسائل من مشتتات إلى جسور تربطنا بأعماق ذواتنا، متى ما أحسنا استخدامها.
وفي هذا الإطار، لا يمكن تجاهل أثر التقنية الحديثة في تحسين تجربة الحج من الناحية التنظيمية؛ فقد أصبحت التطبيقات الذكية ووسائل التوجيه الرقمية ركنا أساسيا في تسهيل أداء المناسك وتنظيم حركة الملايين من الحجاج.
ومع أن هذه الوسائل تسهم في تخفيف مشقة الطريق وتيسير التنقل بين المشاعر المقدسة، فإن الإفراط في استخدامها قد يسلب اللحظة معناها، حين تطغى الشاشة على المشهد، ويضيع الحاضر في زحام التنبيهات والخرائط. فيتأكد حينها أن التوازن هو مفتاح النجاح؛ فتوظيف التقنية يجب أن يخدم مقاصد الحج الكبرى، لا أن يضعف أثرها في النفس.
ومع كل الفوائد التي تقدمها تطبيقات مثل: “نسك” و “اعتمرنا” من تنظيم وإرشاد، يبقى جوهر الحج في خشوع القلب، وصفاء النية، وصدق التوجه. غير أن الواقع يظهر أن بعض الحجاج ينشغلون بما على الشاشة أكثر مما يعيشه القلب.
ولا يتوقف الأمر عند تنظيم الحركة أو تتبع المواقع، بل يمتد إلى طريقة معايشة اللحظة، فقد بات من المألوف أن نرى من يوثقون تفاصيل الرحلة لحظة بلحظة، ويلتقطون الصور، ويتفقدون الإشعارات، وينسون أن السكينة لا تأتي من الكاميرا، بل من السكون الداخلي.
وبينما توفر هذه الأدوات شعورا بالأمان والتنظيم، فإنها قد تضعف حضور الذهن في التجربة الإيمانية، إن لم تستخدم بوعي وتقدير للزمان والمكان.
وتظهر هنا حاجة ملحة لمراجعة علاقتنا بالتقنية، ولا سيما في الأيام التي يطلب فيها منا أقصى درجات التركيز والخشوع، فمع ازدياد اعتماد الحجاج على الأجهزة الذكية، تظهر حالات من التشتت تفقد اللحظة عمقها.
وقد أظهرت بعض التجارب أن التفاعل الدائم مع الهواتف، حتى وإن بدا ضروريا، قد يحول دون بلوغ حالة الانغماس الروحي الكامل التي يسعى إليها كل مؤمن في ذلك اليوم.
ولعل أبرز ما يدعو إلى التأمل تلك المشاهد التي تتكرر سنويا، حيث يستبدل الذكر بالتصوير، ويقدم التوثيق على التضرع. فمشاهد قد تبدو بسيطة، لكنها تختزل حجم التحول الذي نعيشه في علاقتنا مع أقدس اللحظات، وهنا تصبح الدعوة واضحة لإعادة تقييم الأولويات، والتفكير في كيفية عيش اللحظة بصدق، لا مجرد الاحتفاظ بها في ذاكرة الهاتف.
وفي ضوء كل ما سبق، يطل يوم عرفة علينا كتذكير حي بقدرة الإنسان على التحرر من الضوضاء، والإنصات لهمسات الروح. في عالم تتسارع فيه الابتكارات، وتتضاعف فيه الشاشات، يحتاج الإنسان إلى لحظات يتحرر فيها من كل ما يتعلق بالعالم الرقمي، ليدرك الحقيقة بصفاء قلبه، لا من خلال عدسة كاميرته، والتقنية، رغم كل ما تمنحه من تسهيلات، لا ينبغي أن تستغل على حساب ما هو أعظم: صفاء العلاقة بين العبد وربه.
إن الموازنة بين متطلبات العصر وأشواق الروح ليست أمرا عابرا، بل هي تمرين مستمر على الوعي والاختيار، ويمثل يوم عرفة الفرصة الذهبية لهذا التمرين؛ لحظة يمكن فيها للإنسان أن يختار بوعي أن يتصل بالسماء أكثر مما يتصل بالشبكة، وأن يمد قلبه نحو العرش قبل أن يمد يده نحو هاتفه.
وكما قال تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص: 77]، فإن الإسلام لا يدعونا إلى الزهد المهلك أو هجر الدنيا، بل إلى التعامل معها بحكمة واتزان، فنأخذ منها ما يعيننا على طاعة الله، ونستثمر نعمه فيما يقربنا من الدار الآخرة.
وقد نبه النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى أن العبرة ليست في المظاهر أو الصور، بل في جوهر الإنسان وحقيقة عمله، فقال:”إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”. ( رواه الإمام مسلم). فالمعيار الحقيقي عند الله هو صدق النية وصلاح العمل، لا زخرف الحياة أو مظهر الإنسان.
ختاما، يبقى السؤال مطروحا: هل نحن قادرون على إعادة رسم علاقتنا بالتقنية بطريقة تجعلها تقربنا من جوهر إنسانيتنا؟
وهل نملك الشجاعة للانفصال المؤقت عن هذا العالم المتصل دوما، لنعيش لحظة اتصال حقيقية مع من لا تنقطع صلته أبدا؟ لعل يوم عرفة يكون البداية.