بقلم د. مصطفى أحمد عبدربه
رئيس قسم الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق جامعة المنصورة
جاء في سورة الحج قوله تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ(28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ(29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ(30)).
وقال الله تعالى: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيم } الآية [ آل عمران: 96 ، 97 ]، وقال تعالى: { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [ البقرة: 125 ].
إن من الأيام الفاضلة عند الله عز وجل يوم عرفة، فهو يوم أهل الموقف، حيث يقف الحجاج فيه على صعيد عرفات، يقول عليه الصلاة والسلام : “الحج عرفة”.
وروى البخاري وغيره عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام ” يعنى أيام العشر، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد فى سبيل الله؟ قال “ولا الجهاد فى سبيل الله ، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك شيء” .هذا أصح ما ورد فى فضل هذه الأيام . ولكن ما هو العمل الصالح، هل هو نوع معين من العمل، أو هو كل قربة يتقرب بها إلى الله ؟
والجواب عن هذا في رواية الطبرانى بإسناد جيد “ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إلىَّ العمل فيهن من أيام العشر، فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير”.
ولعل الفضل سببه أن هذه الأيام هي التي يكثف فيها الذهاب إلى المسجد الحرام لأداء فريضة الحج والعمرة ، ويعيش الناس فيها فى ظلال الروحانية والشوق إلى الأماكن المقدسة، سواء منهم من سافر ليحج ومن لم يسافر، والعمل الصالح إذا وقع في ظل هذه الروحانية كان أرجى للقبول ومضاعفة الثواب ، وبخاصة أن هذه الأيام فيها يوم عرفة الذى جاء فيه حديث رواه ابن خزيمة وابن حبان “ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة ” وفيها العيد والحج الأكبر، وهى أيام يتوفر فيها الأمن فى البلاد الإسلامية لتهيئة الجو للمسافرين للحج ولمن خلفوهم وراءهم وذلك بالانشغال بالعبادة والذكر .
وفى يوم عرفة خطب في وادى عرنة وكان فيما قال :(إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع … فاتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدى إن اعتصمتم به، كتاب اللّه، وأنتم تسألون عنى فماذا أنتم قائلون؟ قالوا :نشهد أنك قد بلَّغت وأدَّيت ونصحت: فأشار بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس – أي يرددها ويقلبها، وهو يقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد .(
وخطب فى منى يوم النحر خطبة أكَّد فيها ما خطبه فى عرفة، وبيَّن أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، فالسنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم … وقال فيها: ” ألا لا ترجعوا بعدى كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا فليبلّغ الشاهدُ منكم الغائبَ، فَرُبَّ مبلغ أوعى من سامع “.
ومن كمال فضل هذا اليوم العظيم المبارك ما جاء عن طلحة بن عبيد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما رئي الشيطان يومًا هو في أصغر، ولا أدحر، ولا أحقر، ولا أغيظ منه يوم عرفة ، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما كان من يوم بدر، فقيل : وما رأى من يوم بدر ؟ قال :أما إنه قد رأى جبريل وهو يزع الملائكة”. هذا حديث مرسل.
ومن كمال فضل هذا اليوم أيضا: روى ابن المبارك عن سفيان الثوري، عن الزبير بن علي، عن أنس ابن مالك رضي الله عنه، قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، وقد كادت الشمس أن تثوب. فقال: ” يا بلال: أنصت لي الناس ” فقام بلال فقال: أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنصت الناس. فقال: ” معشر الناس: أتاني جبريل عليه السلام آنفا، فأقرأني من ربي السلام، وقال: إن الله عز وجل غفر لأهل عرفات، وأهل المشعر الحرام، وضمن عنهم المتبعات “.
فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله هذا لنا خاصة؟ قال: ” هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة “.فقال عمر رضي الله عنه: كثر خير الله وطاب.
وعن فضل صيام يوم عرفة، وهو اليوم التاسع من ذي الحجة حيث يستحب لغير الحاج أن يصوم ذلك اليوم، لما روي عن أبي قتادة في صحيح مسلم، قال سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن صوم عرفة فقال:( يكفر السنة الماضية والباقية)، وروى النسائي بإسناد حسن: أن صيامه يعدل صيام سنة، وفى رواية حسنة للطبراني: “أنه يعدل صيام سنتين”، وفى راوية حسنة للبيهقي: “أنه يعدل صيام ألف يوم .”
وتدل هذه الأحاديث على فضل صيام يوم عرفة، لكن هذا لغير الواقف بعرفة، فقد روى أبو داود والنسائي وابن خزيمة في صحيحه والطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صومه .
أفضل الدعاء يوم عرفة: يوم عرفة أفضل أيام الدنيا: يغفر الله تعالى لكثير من عباده في ذلك اليوم، قال – صلى الله عليه وسلم-: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة).
أفضل الدعاء يوم عرفة ما جاء في الحديث الشريف: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي- لا إله إلا الله وحده لا شريك له .له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير). واخشع وتذلل لربك نادمًا على ذنبك وخطاياك راجيا عفوه، طامعًا في رحمته ورضوانه متمثلا يوم الحشر الأكبر، فإن عرفة صورة منه فقد حشر فيه الخلق من كل جوانب الأرض حجاجًا.
وأتم الله تعالى النعمة وأكمل الدين في هذا اليوم المبارك لقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3). سورة المائدة. فإنها نزلت في حجة الوداع يوم عرفة .
فهو يوم إكمال الدين وإتمام النعمة على هذه الأمة فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأديان وأفضلها لا يقبل من أحد دين سواه، في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رجلا من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أي آية ؟ قال: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة، ومن فضائل يوم عرفة أنه يوم عيد لأهل الإسلام ، كما قال ذلك عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، حيث قال ابن عباس: نزلت في يوم عيد، في يوم جمعة، ويوم عرفة ، وقال عمر: (كلاهما بحمد الله لنا عيد).
فضيلة التسامح يوم عرفة:
التسامح وهو خُلق إنساني أصيل دعا إليه الإسلام؛ وحث على العمل به في جميع المجالات؛ لأنه يرفع الحرج فى العلاقات بين الناس ويجعل الإنسان يترفع عن الكره والبغضاء وروح الثأر والانتقام، وهى صفات تفسد وتدمر الحياة البشرية على الأرض، وتقطع سبل التفاهم والتعاون بين الناس .وفى مقابل ذلك يدعو سبحانه وتعالى إلى العفو والتسامح ونسيان الأحقاد والعمل بالحسنى ، وقال تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت:33، 34، 35].
فإنني أدعو إلي التسامح بين الناس بصفة خاصة في هذا اليوم الميمون المبارك يوم تقبل الدعاء وغفران الذنوب. وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في التسامح مع أعدائه الذين حاربوا دعوته وأخرجوه من بلده وآذوه وحاولوا قتله، وعندما نصره الله عليهم يوم فتح مكة المكرمة قال لقريش في حوار نموذجي بين المنتصر والمهزوم : (ما تظنون أنى فاعل بكم)؟ قالوا : خيرًا ، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال عليه الصلاة والسلام: (أقول لكم كما قال أخي يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، اذهبوا فأنتم الطلقاء).
فهذه هي المبادئ السامية التي وضعها الإسلام لتقوم عليها العلاقات الإنسانية، ويدور في ضوئها الحوار أيًا كان نوعه وموضوعه وغايته، وإذا أخذت الجماعات والدول بهذه المبادئ في المحاورات فيما بينها تكون قد خطت الخطوة الصحيحة في حل المشكلات، وتحقيق التعاون فيما بينها مصداقًا لقول الله جل شأنه : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ). المائدة :2 . وقال النبي صلي الله عليه وسلم لزوجه عائشة : (إن الله يحب الرفق في الأمر كله) (ما دخل الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه) ، (إن الله يحب الرفق، ويعطى عليه ما لا يعطى على العنف).
جهود المملكة السعودية تجاه الحجيج:
الأمر الذي لا ينكر أن المملكة العربية السعودية تقدم كل غالى ونفيس لراحة الوفود التي جاءت من كل فج عميق، وهذا ليس بغريب على بلاد الحرمين الشرفين فهم أهل الرفادة والضيافة والكرم، اجزل الله لهم الثواب والمغفرة لكل ما يقدمونه لخدمة حجاج وضيوف بيت الرحمن.