بقلم الدكتور إبراهيم علي شبل
إمام المسجد الأحمدي بطنطا
ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرࣱ مَّعۡلُومَـٰتࣱۚ فَمَن فَرَضَ فِیهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِی ٱلۡحَجِّۗ وَمَا تَفۡعَلُوا۟ مِنۡ خَیۡرࣲ یَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَتَزَوَّدُوا۟ فَإِنَّ خَیۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ یَـٰۤأُو۟لِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِ (البقرة ١٩٧)
فريضة الحج في الإسلام ليست مجرد مؤتمر سياسي أو فعالية اجتماعية، بل هي عبادة شاملة تجمع بين الأبعاد الروحية والاجتماعية والتاريخية والتوحيدية، وتتجاوز في مقاصدها أي تشبيه ضيق وهذه بعض الجوانب المقاصدية لفريضة الحج الجوهر الروحي والديني
الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، واجبٌ مرةً في العمر على كل مسلم بالغ قادر مستطيع، كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “بني الإسلام على خمس…” .
تقوم فلسفة الحج على تجريد النية لله، وترك الزينة والملذات الدنيوية خلال الإحرام، مما يرمز إلى المساواة بين البشر وتطهير النفس .
تمثل مناسك الحج (كالطواف والسعي والوقوف بعرفة) تجسيداً لعبودية الله واتباعاً لسنة النبي إبراهيم عليه السلام،
البعد الاجتماعي والأمة الواحدة
لقاء فريد يجمع المسلمين من كل الأعراق والطبقات في مكان واحد، بلباس واحد، يرمز لوحدة الأمة وتذكيرٍ بأخوة الإسلام التي تتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية،
وفريضة الحج يتحاوز معناها لفظ المؤتمر بكل أنواعه فغاية فريضة الحج العبادة والتقرب إلى الله، وتجديد التوبة، وغاية المؤتمرات مناقشة القضايا واتخاذ القرارت، ومن حيث النسك (جدول الأعمال) مناسك محددة بالشرع لا تُغيَّر (كالإحرام، الطواف، الوقوف بعرفة).
وجدول أعمال المؤتمرات ذا فعاليات قابلة للتعديل حسب الأهداف، ومن حيث الديمومة فهو شعيرة دائمة منذ عهد إبراهيم عليه السلام وإلى قيام الساعة، والمؤتمرات لها فعاليات مؤقتة تنتهي بتحقيق أهدافها، ومن حيث المشاركون فى الحج عموم المسلمين شرط الاستطاعة المالية والبدنية وأمن وسلامة الرحلة لا يستبعد فئة أو لون.
والمؤتمرات لفئة محددة كالقادة أو الخبراء أصحاب مهن، وفريضة الحج يتجاوز معناها مؤتمراً بالمعنى الحديث، بل هو ميقات زمني ومكاني لتنقية وترقية الروح وغرس وتركية قيم إنسانية تجسد وحدة المسلمين، مما ينتج عنه فوائد اجتماعية واقتصادية. وأي تشبيه له بفعالية سياسية يظل قاصراً عن إدراك كنهه كعبادةٍ جامعةٍ تهدف إلى تزكية النفس وتجديد الإيمان.
فريضة الحج شأنها تزكية النفس بمجموعة من القيم الإنسانية :
زي الإحرام
1- تجسيد للمساواة الإنسانية الكاملة:
الثياب البيضاء التى يلبسها الجميع يزول بها التفاوت الطبقي والعرقي والقومي، ويصبح الجميع سواسية أمام الله.
هذا المشهد البصري الجمعي الناصع البياض يذكّر العالم بأن البشر متساوون في الأصل والكرامة، وهي قاعدة أساسية للسلام.
2-تجمع سلمي ضخم:
رغم الكثافة الهائلة يسود جو من النظام والالتزام بالتعليمات والسكينة رغم ملايين البشر من كل حدب وصنف ولون وثقافة ولغة فى مكان وزمن واحد
وهذا الميقات الزماني والمكاني الموحد يثبت عملياً إمكانية تعايش واندماج البشر المختلفين في سلام عند وجود هدف روحي سامٍ وقيم أخلاقية مشتركة.
3- شعائر تعزز الوحدة والتآخي:
الطواف: رمزاً لوحدة الهدف والاتجاه يدور الجميع حول مركز واحد (الكعبة) في حركة متناغمة.
السعي بين الصفا والمروة: تذكير بتضحية السيدة هاجر وابنها إسماعيل، وتعزيز الصبر والتعاون.
الوقوف بعرفة: التجلي الأعظم للوحدة حيث يقف الجميع في صعيد واحد متضرعين إلى رب واحد.
رمي الجمرات: رمز لمحاربة الشر والنزعات العدوانية في النفس.
التضحية (الأضحية): مشاركة اللحم مع الفقراء والمحتاجين، تعزيزاً للعطاء والتكافل.
رسالة السلام: هذه الشعائر العملية تذوّت قيم الوحدة والتضحية والتعاون ومقاومة الشر، وهي أركان السلام الحقيقي.
4- قيم أخلاقية مفروضة:
يُحظر على الحاج الجدال والفسوق والرفث والعنف.
يُحرم صيد البر وتقطيع الأشجار في الحرم، احتراماً للحياة والبيئة.
رسالة السلام: التأكيد على أن العبادة لا تكتمل إلا بالأخلاق الحميدة واحترام الحياة بكل أشكالها، مما ينمي ثقافة الرفق والاحترام.
5- يوم عرفة الدعوة الكبرى للسلام:
في حجة الوداع، أعلن النبي صلى الله عليه وسلم مبادئ إنسانية خالدة: “لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى”، وحرم الدماء والأعراض والأموال.
رسالة السلام: يذكر الحجاج والعالم بهذا الخطاب التاريخي الذي أسس لمجتمع عالمي يقوم على العدل والمساواة واحترام حقوق الإنسان.
كيف تكون دعوة للسلام العالمي؟
فريضة الحج نموذج عملي ودعوة صامتة من خلال المشهد البشري الفريد في منى وعرفة والمشاعر، وما يرافقه من نظام وسكينة رغم الكثافة، هو بحد ذاته دعوة قوية للسلام تصل للعالم عبر وسائل الإعلام.
باختصار: فريضة الحج مدرسة عملية تعلم أبنائها أن السلام ممكن عندما يسود هدف سامٍ فوق المصالح الضيقة، وعندما تزكو قيم المساواة والتآخي والأخلاق.
وفريضة الحج دعوة صادقة من قلب الأمة الإسلامية للعالم كله: أن حجاج بيت الله يلبون نداء إبراهيم بالحج ويمارسون نسكاً متشبعة بالإخاء والرحمة والتعايش.