بقلم د. حنان شبانة
أستاذ مساعد بجامعة تبوك سابقا
يقول أحد المفكرين:”إن أعظم ما يمكن أن تهديه لأمتك هو وعي نقي، يوسع المدارك، ويهدم الأسوار”. في زمن تتسارع فيه الصراعات على أساس الدين والهوية، وتبنى فيه الأسوار بدل الجسور، تتجلى الهجرة النبوية الشريفة كحدث مفصلي، ليس فقط في التاريخ الإسلامي، بل في التاريخ الإنساني بأسره. إنها ليست مجرد انتقال جغرافي من مكة إلى المدينة، بل تحول حضاري عميق، دشن أول تجربة حقيقية للتعايش المنظم في المجتمع الإسلامي، حيث التقى المختلفون دينيا وعرقيا على أرضية مدنية عادلة، قامت على الشراكة لا الهيمنة، وعلى الحوار لا الصدام.
ومن بين ما أفرزته هذه المرحلة، تبرز وثيقة المدينة بوصفها أول عقد اجتماعي حقيقي في الإسلام، وضعت الأسس الأخلاقية والسياسية لبناء مجتمع تعددي، يعترف بالاختلاف، ويمنحه بعدا حضاريا. لقد كانت مواقف النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) من المختلفين دينيا، وعلى رأسهم يهود المدينة، تجسيدا عمليا لهذه المبادئ؛ فقد انتصر للحرية الدينية، ورفض كل أشكال الإكراه، وفتح أبواب الحوار والتفاهم.
وقد أقر القرآن هذا النهج بقوله تعالى: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ (الكافرون: 6) ، وقال النبي (صلى الله عليه وسلم):” ألا من قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله، فقد خفر ذمة الله ولا يرح ريح الجنة وأن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا”. ( رواه الإمام الحاكم في المستدرك).
وفي ظل واقعنا الراهن، حيث ترتفع أصوات الإقصاء، ويعاد إنتاج الانقسامات تحت شعارات دينية أو طائفية، تصبح العودة إلى تلك القيم ضرورة أخلاقية وإنسانية عاجلة. إنها ليست استحضارا لماض مثالي، بل استرداد لصوت العقل والرحمة، وبعث لأخلاقيات التعايش في زمن يهدد فيه الإنسان بإنسانيته لا باختلافه. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل نستطيع، في واقعنا المعاصر، أن نستلهم من “وثيقة المدينة” نموذجا حيا نعيد به تعريف علاقتنا بالآخر؟ وهل نملك الشجاعة لإحياء ما علمنا إياه النبي (صلى الله عليه وسلم)، أن العدالة لا تبنى على التشابه، بل على الاحترام؟
إن أهمية الهجرة في التاريخ الإسلامي لا تكمن فقط في بعدها الروحي أو السياسي، بل في قدرتها على ترسيخ قيم التعايش البشري. فقد شكلت وثيقة المدينة نموذجا تاريخيا ملهما، يعكس رؤية النبي (صلى الله عليه وسلم) في تنظيم العلاقة بين مكونات المجتمع المتعددة، على أساس الاحترام المتبادل والانفتاح. ومن خلال هذا الاتفاق، تجسدت ملامح الالتزام بمبدأ العيش المشترك، مع حماية الخصوصيات الدينية والثقافية، ضمن إطار وحدة مدنية شاملة لا تستثني أي فرد.
ومن أبرز ملامح هذه التجربة قدرتها الفريدة على تجاوز الصراعات العقائدية التي كانت سائدة آنذاك، لتؤسس رؤية جديدة تقوم على التعاون والتفاهم المشترك لم تكن الوثيقة مجرد نص تنظيمي سياسي، بل مثلت تجسيدا حيا لرؤية إنسانية ترتقي بالإنسان إلى مكانته كقيمة مطلقة، وتنطلق من مبادئ الإنصاف، والعدالة، والشراكة المجتمعية.
لقد جاءت تجربة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في المدينة لتبرهن على إمكانية التعايش الديني بصورة عملية، حيث أرست وثيقة المدينة قواعد واضحة تنظم العلاقة بين المسلمين واليهود والمشركين على أساس الحقوق والواجبات، وقد انعكست هذه القيم في سلوك النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي جسد في مواقفه اليومية روح العدالة والانفتاح، رافضا فرض الدين أو الإكراه في العقيدة، وهو ما يفند سرديات الصراع الديني التي تهيمن على كثير من الخطابات الراهنة.
إن قراءة عميقة في مضمون هذه الوثيقة تكشف عن رؤية متقدمة في بناء مجتمع متعدد الهويات، حيث لم يكن الدين حاجزا أمام التعاون، بل إطارا ينظم العلاقة الإنسانية على قاعدة المواطنة ويبرز هذا الانفتاح في تعاملات النبي (صلى الله عليه وسلم) اليومية، – خصوصا – الاقتصادية، مع يهود المدينة، حيث كانت المعاملات التجارية قائمة على الثقة، لا على الانغلاق، مما يؤكد أن التعددية لا تعني التنافر، بل إمكانية بناء مجتمع متماسك ومتكامل رغم اختلاف المشارب والمعتقدات.
وفي ضوء ذلك، يتضح أن احترام الهويات الدينية والثقافية لا يعد مسألة ثانوية أو هامشية، بل هو مدخل أساسي لتحقيق العدالة الاجتماعية، فالمجتمعات لا تستقر حين تفرض على أفرادها التماثل، بل حين تعترف بتعدد مكوناتها، وتؤسس لثقافة الاحترام. وقد جسد النبي (صلى الله عليه وسلم) هذا المبدأ حين تبنى أسلوب الحوار والتفاهم، بديلا عن التعصب أو الإقصاء، وهو ما انعكس حتى في تبادل المنافع الاقتصادية مع غير المسلمين، في مشهد يجسد كيف يمكن للتنوع أن يتحول إلى طاقة خلاقة تدفع نحو البناء، لا عبئا يشكل تهديدا. فقدم النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) نموذجا رفيعا في تعامله مع المختلفين دينيا، أساسه الحوار الراقي، والاحترام العميق للحرية الدينية.
ومن خلال وثيقة المدينة وسلوكياته اليومية أكد رفضه القاطع للإكراه، وكرس رؤية تقوم على التفاهم المتبادل لا الهيمنة، وعلى بناء علاقات إنسانية تحفظ الكرامة، لا على منطق الغلبة والسيطرة. وهذا ما تؤكده الآية الكريمة: ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ (البقرة: 256)، وحديثه (صلى الله عليه وسلم):” ألا من ظلم معاهدا، أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة “. ( رواه أبو داود).
فهذه الرؤية النبوية ليست مجرد إرشادات أخلاقية، بل تشكل قاعدة تأسيسية في الفكر الإسلامي، ومرجعية مهمة لمواجهة التحديات الاجتماعية المعاصرة فهي تدعونا إلى إعادة النظر في علاقتنا بالآخر، لا من منطلق الدفاع، بل من منطلق البناء المشترك لعالم أكثر إنصافا. في زمن تتعدد فيه الأصوات وتضيع فيه البوصلة الأخلاقية، تظل الهجرة النبوية نداء مفتوحا للعقل والضمير؛ نداء يعيد تشكيل علاقتنا بالآخر، ويذكرنا بأن التعايش ليس خيارا طارئا، بل ضرورة إنسانية تبنى بالاحترام والشراكة . فلم تكن الهجرة مجرد حدث مضى يروى، بل كانت مشروعا مستقبليا يحتذى؛ مشروعا يعلمنا أن التنوع مصدر غنى لا باعث خوف، وأن الحوار قوة لا ضعف، وأن المجتمعات لا تبنى بالإكراه، بل تشيد على الثقة المتبادلة.
إن استيعاب هذه القيم وتفعيلها في واقعنا المعاصر مسؤولية فكرية وأخلاقية تقع على عاتق كل فرد، فعندما نستمد من السيرة النبوية نهجا في السلوك، ومن وثيقة المدينة تصورا حضاريا، نمتلك القدرة على إعادة تشكيل عالم أكثر عدلا وإنسانية.
فلتكن استجابتنا لهذا النداء لا بوصفه مجرد استحضار لماض مجيد، بل كمشروع حي نابض بالحياة نغرسه في مؤسساتنا، ونبثه في مدارسنا، ونجسده في قلوبنا، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾
(الحجرات: 13). فالتعارف لا يعني الذوبان، ولا الصدام، بل هو اعتراف متبادل ووعي بالاختلاف وسبيل للحوار، وكما قيل:” السلام ليس غياب الصراع، بل القدرة على التعامل معه بوسائل سلمية “. فهل نملك نحن اليوم شجاعة تحويل قيم التعايش من نصوص محفوظة إلى واقع ملموس؟ وهل يمكن أن يكون الاختلاف بداية حوار، لا ذريعة لانقسام؟”