ربما كان أشهر أمراضنا الاجتماعية، ربما كان أسوأ عاداتنا الشخصية، أن ننتقد غيرنا ونقتنع بأنفسنا، أن نستهلك وقتنا وجهدنا وأعصابنا فى متابعة ما يجرى للآخرين، بينما نحن فى حاجة إلى كل دقيقة نضيعها فى ذلك، إن بيوتنا من زجاج ورغم ذلك نُصِرّ على أن نلقى الناس بالحجارة.
تجد شخصاً بديناً مترهِّلاً يكاد لا يلتقط أنفاسه ينصحك بفوائد الرشاقة وأهمية الرجيم! تجد شخصاً جاهلاً سعيداً بظلام عدم المعرفة يُفْرِط فى شرح أهمية العلم وضرورة اللحاق بركبه! تجد شخصاً فاسداً كسولاً لا يملُّ من الحديث عن النزاهة والشرف وقيمة العمل! وفى كل هذه الأحوال وغيرها لا أنت ستسمع منه ولا هو سيفعل شيئاً! هنا تأتى قيمة الآية الكريمة: إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم”.
الذى يدعو إلى التغيير يبدأ بنفسه، السمين يغيِّر من عاداته الغذائية، قبل أن يفرط فى الحديث عن الرشاقة، الكذَّاب يغيِّر من عاداته النفسية، يكفّ عن الكذب قبل أن يحرِّض الناس على الصدق، المصاب بالسكَّر يغيِّر من نوعية طعامه قبل أن يتكلم عن أضرار السكر على تصلُّب الشرايين وأمراض القلب، المصاب بالبلهارسيا يغيّر من طريقته فى الاستحمام قبل أن ينصح الناس بالابتعاد عن التِرَع والبِرَك.
لقد أعطانا الله الشئ وضده، وهدانا النَجِدَيْن (سبيل الخير وسبيل الشر). فإذا أصابنا من الشَّرِّ شيئاً فإن تغييره يكون بتغيير ما أدى إليه لا ننزل ترعة حتى لا نُصاب بالبلهارسيا. فالله لن يغير ما بنا من بلهارسيا حتى نغير من عادة الاستحمام فى الترعة.
التغيير هنا يكون بالوعى والثقافة. نعرف خطورة البلهارسيا قبل أن ننزل الترعة. نعرف تأثير التدخين على القلب وتصلب الشرايين قبل أن نشعل سيجارة. كل ما نعانى منه من أنفسنا، يقول سبحانه وتعالى: “وما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك”.
إن النبى عندما أراد أن يغيِّر ما بالقوم من شِرْكٍ وكُفْرٍ فى زمانه لم يقتلهم ولم يدمِّرهم. لقد بُعِثَ ليجد الناس تعبد الأصنام لتقرّبهم إلى الله زُلفى. ويعبدون الأوثان على أنها آلهة. لكنه لم يكسر أصنامهم. بل صبر عليهم. علَّمهم التوحيد. فلما دخل الإيمان قلوبهم خرج الشرك منه وتبعه الكفر أيضاً. أبصروا بنفس العيون التى كانوا يبصرون بها سابقاً. وبنفس القلوب التى كانت فى صدورهم. وبنفس العقول التى كانت فى رؤوسهم قبل ذلك.
لقد أبصروا التماثيل التى كانوا يعبـدونها من قبل فوجـدوها- بـعد أن غيَّروا ما بأنفسهم- مجرَّد حجارة لا تضرّ ولا تنفع ولا تصلح لشئ مما كانت تُقَدَّس به. لا تصلح أن تكون آلهة تُعْبَد لذاتها أو للتقرّب إلى الله. هنا غيَّر الله ما بهم من شرك وكفر لأنهم غيَّروا ما بأنفسهم من تصورات إيمانية خاطئة. وفعلوا ذلك استعانة برسول الله.
إن الرسول لم يقتلهم ولم يكسِّر أضلاعهم بل ساعدهم على نزع الشرك من قلوبهم فماتت الأصنام والأوثان التى كانوا يعبدونها وهى منتصبة أمامهم. ماتت واقفة. ولا يتعلَّل أحد بما فعله سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما كسَّر الأصنام، فهو عندما فعل ذلك زادت تجارة الأصنام وتحمَّس لها الناس وحسَّنوا فى صنعها. ولم يقضِ على الشرك والوثنية.
يـقول سبحانه وتـعالى: “فأما ثمود فهديناهم فاستحبُّوا العمى على الهدى”. قـال “هديناهم”. أى دَلَلْنَاهم على الهدى. دلَّهم على الخير. دلهم على النور. وهو يعنى أنه ترك لهم الخيار. لكنهم اختاروا الظلام، السواد، العمى. وهو ما يعنى أن الله لا يرغم الناس على الهداية. وكان سبحانه وتعالى قادراً على ذلك. فلماذا يصرّ البعض على قتال غيره بدعوى الهداية؟! لا هدايـة لمن لا يريد أن يغيِّر ما بنفسه. وقد اسـتخدم الله كلمة “استحبُّوا” وهى تعنى أنه ترك لهم الخيار، لم يرغمهم على شئ.
كونك تجد شخصاً يريد أن يهديك بالعافية. أهو أعلم أم الله؟ أهو أقدر أم الله؟ أهو صاحب الدين أم الله؟ إن الله هو الذى خلقنا ويعرفنا جيداً ومع ذلك خيَّرَنا بين الخير والشر. الكفر والإيمان. الشرك والعبادة. إن ذلك يبدو واضحاً مؤكَّداً فى كلمة “استحبّوا”، فاستحبوا معناها اختاروا. اختاروا بأنفسهم العمى على الهدى. فإذا كان الله لم يرغم الناس على الهداية وكان يقدر على هدايتهم غصباً عنهم، فلماذا يصرّ الناس على ذلك؟! لماذا يصرُّون على هداية غيرهم بالعنف والقسوة؟! لقد ترك الله حرية العقيدة لعباده. وكان يستطيع أن يلوى أعناقهم. إنها ديمقراطية السماء التى لم يتعلَّمها المتطرفون الذين تصوّروا أنهم يمكن أن يصلوا إلى هداية الآخرين بالعافية. وفى الوقت نفسه بسط الله يده ليتوب كل من أذنب وليؤمن كل من كان على الشرك. فمن يملك قدرة أكبر من قدرة الله حتى يستخدم العنف لهداية الناس؟! ولو استطاع هذا الشخص السيطرة على البدن بالحبس والقوة والجلد والتعذيب والتخريب والتفجير فهل يستطيع أن يفتح القلوب ويُدخِل فيها الإيمان؟!
إذن مبدأ الهداية بالقوة ليس إرادة إلهية ولا سلوكاً نبوياً ولا تراثاً تركه لنا السلف الصالح. ولا طائل منه إلا إذا كان الأمر يتعلق بالتعلل خدمةً لغرض ما. غرض آخر. يجعله يبالغ فى العنف. فمن يشرب سيجارة يكفِّرونه! ومن يبتسم يقتلونه! فالحرق عندهم أسهل من الإصلاح، يقول سبحانه وتعالى: “إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقى إلا بالله”، لا نملك فى الدعوة إلى الله إلا الحكمة والموعظة الحسنة والحوار بالتى هى أحسن. وهى أدوات ثقافية عالية لا تتوافر إلا فى عدد قليل من البشر. أما التدمير والحرق والتخريب فلا يحتاج إلى هذه القدرات. يحتاج فقط إلى سلوكيات همجية، بربرية، بلطجية. ولا حول ولا قوة إلا بالله.