تقرير: سمر عادل
ونحن نحتفل بعيد الأُم، يجدر بنا أن نبحر فى التاريخ الإسلامي الذى يحفل بنماذج لأمهات عظيمات ساهمن في تنشئة جيل من العلماء والأئمة شبّوا على حب العلم والتسلّح به، واجهتهم صعاب في طريقهم للدعوة فكانت أمهاتهم خير معين يقوِّمهم ويصحِّح لهم المسار إلى أن أصبحوا خير ورثة للأنبياء ،وأفضل علماء نهتدي بهديهم ونقتدي بمسيرتهم.
في السطور التالية نستعرض عددا من أبرز أمهات الأئمة وقدامى العلماء ونلقي نظرة سريعة على أدوارهن في تنشئة أبنائهن:
مات والد الإمام الشافعي، بعد ولادته بزمن قصير، فنشأ يتيما، وأصبح مصيره مرتبطا بتصرُّف أمه، فأحسنت رعاية وليدها، وسهرت على تنشئته تنشئة صالحة، واختارت له الطريق القويم ،حيث ارتحلت به حين بلغ عامين من عمره من غزَّة -مسقط رأسه- إلى مكة، حيث العلم والفضل، والبادية حولها، والتي فيها يقوَّم لسان الغلام وتصح لغته، وكان الشافعي هو ثمرة جهود تلك المرأة الفاضلة، فأصبح هو كذلك إمام الدنيا.
كانت والدة الشافعي ذات حذق وذكاء، وتفقه في الدين، وقوة عارضة، وقدرة على الاستنباط، ودليل ذلك أنها تقدمت هي وامرأة أخرى مع رجل للإدلاء بشهادة أمام قاضٍ، فأراد القاضي أن يفرِّق بين المرأتين، ولكن والدة الشافعي اعترضت على القاضي قائلة: ليس لك ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) البقرة الآية 282؛ فأُسقط في يد القاضي وانصاع لقولها.
العالية بنت شريك
هي أم الإمام مالك، العالية بنت شريك بن عبدالرحمن الأسدية، دفعته لحفظ القرآن الكريم فحفظه، وأرسلته إلى مجالس العلماء، فألبسته أحسن الثياب، وعمَّمته، ثم قالت له: اذهب فاكتب الآن، ولم تكتفِ بالعناية بمظهره، بل كانت تختار له ما يأخذه عن العلماء، فكانت تقول له: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه. فظل مالك يطلب العلم إلى أن نقض سقف بيته فباع خشبه.
تعرض الإمام مالك لمحنة شديدة وذلك لروايته حديث: “ليس على مستكره يمين”. فرأى الخليفة والحكام أن التحدث به ينقض البيعة، إذ كانوا يُكرهون الناس على الحلف بالطلاق عند البيعة، وبسبب ذلك ضُرب بالسياط وانخلعت كتفه.
مرض قبل موته، تشهد، ثم قال: لله الأمر من قبل ومن بعد. وتوفي سنة تسع وسبعين ومائة في خلافة هارون الرشيد، وصلى عليه حفيد عبدالله بن عباس، وهو يومئذٍ والٍ على المدينة، ودفن بالبقيع، وكان ابن خمس وثمانين سنة.
صفية بنت ميمونة
ولد الإمام أحمد بن حنبل في آخر القرن الثاني، وعاش في بيتٍ فقير، مات أبوه وهو طفل، فتكفَّلت أمه صفية بنت ميمونة بنت عبدالملك الشيباني بتربيته، فحفّظته القرآن وعمره عشر سنوات، وهذا دور الأم المطلوب لكي ينشأ أطفالها على التقوى والصلاح.
رعته حق الرعاية، قال أحمد رحمه الله: كانت أمي تلبسني اللباس، وتوقظني، وتحمّي لي الماء قبل صلاة الفجر وأنا ابن عشر سنوات،كانت تتخمر وتتغطى بحجابها وتذهب معه إلى المسجد؛ لأنه بعيد.
وقال أيضا: فلما بلغت السادسة عشرة من عمري قالت لي: اذهب في طلب الحديث، فإن السفر في طلب الحديث هجرة إلى الله الواحد الأحد.
قال: فأعطتني متاع السفر عشرة أرغفة شعير، ووضعت معها صرة ملح، وقالت: يا بني، إن الله إذا استودعت شيئاً لا يضيعه أبداً، فأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه. وكانت الثمرة ناضجة فأصبح احمد بن حنبل إمام المسلمين.
النوار بنت مالك
كان زيد بن ثابت- رضي الله عنه- طفلاً صغيرًا، واشتاقت نفسه للجهاد وهو ابن ثلاثة عشر عاما، وحين حاول أن يخرج للحرب في بدر، ردَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بسبب صغر سنه، وعندها رجع إلى البيت يبكي بسبب عدم مشاركته المسلمين في الجهاد، ولما رأته أمه على هذه الحالة لم تطيب خاطره بكلمات وكفى، فإنها كانت تدرك بعمق مواهبه وإمكاناته فلفتت نظره إليها وقالت له: إن لم يكن باستطاعتك أن تجاهد بالسيف والدرع كما يفعل المجاهدون في المعركة، فباستطاعتك أن تخدم رسول الله والإسلام بالعلم الذي عندك.
لقد كانت القراءة والكتابة مزية لدى زيد- رضي الله عنه- فوق أنه يحفظ الكثير من آيات القرآن الكريم، وهذا مجال يتفوق فيه على غيره، وهكذا استطاعت الأم الواعية الفاهمة أن تفتح لصغيرها بابا آخر، بعد ما أُغلق أمامه باب الجهاد مؤقتا.
وحين ذهبت به إلى رسول الله وعرضت عليه إمكانات ولدها، وما يمتلكه في غير مجال الجهاد والحرب، اختبره صلى الله عليه وسلم وسمع منه، ولما علم قدراته وطاقاته قال له: “اذهب فتعلم لغة اليهود؛ فإني -والله- ما آمنهم على كتابي”.
فذهب زيد وتعلم لغة اليهود في أقل من سبع عشرة ليلة، ولعله كان عنده بعض الخلفية عنها، واستطاع خلال الأيام السبعة عشر أن يتم تعلمها وإتقانها.
وبعد ذلك جعله رسول الله من كتبة الوحي، وكفاه شرفا بذلك، حتى إنه بعد وفاة رسول الله أوكل إليه أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- مهمة جمع القرآن، وكان عمره وقتئذ ثلاثا وعشرين سنة.
فلكم نبغ ذلك الطفل، ولكم أفاد الأمة الإسلامية وكان ذلك ثمرة أمٍّ مسلمة استطاعت أن تهب الأمة أعظم ثروة.
هند بنت عتبة
هي هند بنت عتبة أم الصحابي والخليفة معاوية بن أبي سفيان- رضي الله عنه- قيل لها ومعاوية بن أبي سفيان- رضي الله عنه- مازال طفلا صغيرًا: “إن عاش معاوية ساد قومه”، فردَّت وكلها ثقة وحزم: “ثكلته إن لم يسد إلا قومه”.
وقد كان لها ما عزمت وأرادت، حيث صار خليفة للمسلمين، ومؤسس الدولة الأموية، صاحبة التاريخ العظيم والمآثر الجليلة في الإسلام.
أم ربيعة الرأي
“ربيعة الرأي” هو شيخ الإمام مالك، حيث خرج زوجها فرُّوخ في البعوث إلى خراسان أيام بنى أمية، وترك ربيعة حملاً في بطنها، لتقوم هي على تنشئته وتربيته وتعليمه، وقد ترك عندها ثلاثين ألف دينار، ولما رجع بعد سبعٍ وعشرين سنة، دخل مسجد المدينة، فنظر إلى حلقة وافرة، فأتاها فوقف عليها، وإذا فيها مالك والحسن وأشراف أهل المدينة، ولما سأل عن صاحب هذه الحلقة أجابوه بأنه ربيعة بن أبي عبدالرحمن (ابنه).
فرجع إلى منزله وقال لزوجته وأم ولده: “لقد رأيت ولدك على حالة ما رأيت أحدًا من أهل العلم والفقه عليها”، فقالت له: فأيهما أحب إليك: ثلاثون ألف دينار، أم هذا الذي هو فيه؟!
فقال: لا والله بل هذا، فقالت: أنفقت المال كله عليه. قال: فوالله ما ضيعتيه.
أم الإمام البخاري
نشأ البخاري يتيما ضريرًا في حجر أمه، لتقوم هي على تربيته أفضل تربية، فتعهدته بالرعاية والدعاء، ودفعته إلى التعلم والصلاح، وزينت له أبواب الخير، بل رحلت به وهو في سن السادسة عشرة إلى مكة للحج، ثم تركته هناك ورجعت، ليطلب العلم بلسان قومه، ليرجع ويكون هو البخاري، ولتعلم أمهات المسلمين والأرامل منهن خاصة كيف تكون تربية الأبناء، وما دور الأمهات في جهادهن لرفعة الأمة والنهوض بها.