إن أسس الدين موجودة فى القرآن على سبيل الإجمال، وموجودة فى السنّة على سبيل التفصيل، لكن غياب اللغة المشتركة يجعل كل شخص يتبع هواه، ثم يسعى جاهداً كى نمشى وراءه باعتباره هو الصواب. هذا هو سبب التفرّق والتشرذم والتعصّب والتطرّف وربما التخلّف الذى نحن فيه. هذه هى سبب الحالة التى أغرَت القُوى العظمى باستساغة لحمنا واستباحة أرضنا واسترقاق شعوبنا. هى حالة نحن مشغولون فيها بالصغائر. ونعتبرها كبائر، منشغلون بالمصافحة واللحية وكيفية دخول الحمام ومدى شرعية ماكينة الحلاقة وهل التورتة بدعة يكون نهاية من يأكلها النار؟
لو عرفنا قواعد الدين كما نعرف السُلَّم الموسيقى وكما نعرف جزاءات كرَة القدم لاختفى الأدعياء، ولاختفت الفهلوة، أشهر أمراضنا الاجتماعية والنفسية وأكثرها توطناً، ولتقارب الناس وتصالحوا مع أنفسهم ومع بعضهم البعض، إن غياب القواعد فى الطب جعلت الممرض طبيباً، وغياب القواعد فى الهندسة جعلت عامل البناء مهندساً، وغياب القواعد فى الدين جعلت الجاهل عالماً وفقيهاً، فكان كل ما نعانى منه من فوضى فى الفتوى وسهولة فى التكفير وتداخل بين خصائص البشر والحق الإلهى .
إننا جميعاً بشر نقف متَّهَمِين فى قفص الحياة فى انتظار سماع الحكم يوم القيامة، لكن الجنون قد يصل بنا إلى حدّ أن نحكم على بعضنا البعض ونحن فى هذا القفص، نقول لمُتَّهم مثلنا: براءة ستدخل الجنة. ونقول لمتهم آخر مثلنا: إدانة مصيرك جهنم! كيف سوّلت لنا أنفسنا أن نحكم على غيرنا ونحن متّهمون مثلهم؟! وقبل أن تأتى لحظة المحاكمة فى القضية الكبرى التى سيحكم فيها الله، إن شاء عفا عنا وإن شاء عذّبنا، وهو على كل شئ قدير. لا أحد من حقّه أن يفعل ذلك حتى لو كان يحمل كل شهادات الجامعات والمساجد الإسلامية. من أخبره بأن هذا مصيره الجحيم وذلك مصيره النعيم؟! ولو كان هناك من اطمأن أنه فى النار فلماذا يفعل الخير ويتوب؟ ولو كان هناك من اطمأن على أنه فى الجنة فلماذا يواصل ما هو فيه؟
إن الذين يوزّعون صكوك الغفران وأحكام الإدانة بالشِرك والكفر والفسق والإلحاد يعطون لأنفسهم صفة الله، أستغفر الله.
جاء أعرابى للرسول صلى الله عليه وسلم وطلب عطاءً فأعطاه الرسول وكان جالساً بين الصحابة وسأله: أأحسنتُ إليك؟ فقال الرجل: لا أحسنتَ ولا أجملتَ! فاغتاظ الصحابة، لكن الرسول أخذ الرجل ودخل به داره وزاد فى عطائه حتى رضى، ثم سأله: أأحسنتُ إليك؟ فقال الرجل: أحسنتَ وأجملتَ. والتفت الرسولُ إلى صحابته قائلاً: إن مَثَلِى ومَثَل هذا الرجل كمثل رجل شرَدت دابَّته فتبعها الناس فزادوها نفورا، فقال الرجل (صاحبها) خلّوا بينى وبين دابّتى، فأوْهَمَها بالطعام فأتت إليه فأناخها وامتطاها.
فلو كان مطلوب منّا أن نُخْلى بين الرجل وناقته ونخْلى بين الأعرابى ورسول الله، ألا نخْلى بين الله وعباده؟! إن من يُصدر حُكماً على أحد لابد أن يملك القُدرة على تنفيذه. فلو منحك أحد شهادة النار، عليه أن يضعك فيها. ولو منحك شهادة الجنّة، عليه أن ينفّذ ذلك. لقد خلع هؤلاء ثياب العباد وارتدوا حُلَّة الله، خلعوا ملابس المتّهمين وارتدوا ملابس القُضاة .
لقد سبقت رحمة الله غضبه، والرسول يدعو إلى أن نيسّر ولا نعسّر. أن نبشّر ولا ننفّر، فمن ييسّر يجد اليُسر ومن يُعسّر يجد العُسر.
وصفات الإسلام هى صفات الرسول: العدل، السماحة، البساطة، الرحمة، الكرم. فالرسول كان قرآناً يمشى. فلماذا نقطع ما كان الرسول يصله؟ لماذا نحرّم ما كان الرسول يحلِّله؟ لماذا نقسو على من كان الرسول يرحمه؟ “لو خلقتموهم لرحمتموهم”.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “تُقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغِر”، أى ما لم يكن فى النفس الأخير، والله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. إن الشرك هو الجريمة الكبرى فكيف تجرّأ عليها كل من هبَّ ودبَّ؟ كيف أصبحت تُهمة شائعة نلقى بها بعضنا البعض؟ وقد استغرقتنا كثيراً، فرُحنا نفْرِط فيها، ورُحنا نردّها عن أنفسنا، وفى غمْرة ذلك نسينا أن الدين هو رأى الله وليس رأى العباد، فى غمرة ذلك استهلكتنا التفاصيل، مع أن الحقيقة واضحة وضوح الشمس، إننا نعرف ما هو المال؟ فلا يجوز أن نورّط أنفسنا فى السؤال عن أنواعه. هل الدولار الأمريكى مال؟ هل الليرة التركية مال؟ هل الذهب مال؟ ونحن نعرف الطعام فلماذا نتساءل: هل الفول طعام؟ هل السيمون فيميه أو السمك المدخن طعام؟ هل التورتة طعام؟ لو عدنا لأصول الدين ما وجدنا أنفسنا فى حاجة لكل ما نتورّط فيه من تفاصيل تسبّب جدلاً وشقاقاً. إن كل ما له أصل لا يسبّب مشكلة، وأصل الدين علاقة بين العبد وربّه فلماذا نُباعد بينهما بما نقول وبما نفتى؟
ثم إنه فى بعض الأحيان يحدث التناحر بلا سبب لمجرد الرؤية المحدودة للأشياء، يقول القرآن: “واذكر اسم ربّك وتبتّل إليه تبتيلا” و”اسم ربّك” هو الله، وعلينا ذكره، لكن هناك من يقول: إن الصلاة هى المقصودة بالذكر، عملاً بالآية الكريمة: “فى بيوت أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه” وهذا صحيح، وهناك من يقول: إن قراءة القرآن هو الذكر، عملاً بقوله تعالى: “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”. وهذا أيضاً صحيح ولا ينكره عاقل. وهناك من يقول: إن الحج ذكر. عملاً بقوله تعالى: “فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله” وهذا أيضاً صحيح. ولا ينكره عاقل. وهناك من يقول: إن المقصود بالذكر هو صلاة الجمعة، عملاً بقوله: “يا أيها الذين آمنوا إذا نُودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع” فالعبادات فيها ذكر الله، لكن الذكر مستقل عنها تماماً مثل الماء الموجود فى الطعام ولكنه ليس الماء المستقل عنه. إن الذكر هو ترديد اسم الله دون طلب منفعة أو طلباً لكشف ضرر “واذكر اسم ربك”. فلو تمسّك كلٌّ برأيه فى تفسير الذكر لتناحرنا، وكفَفَنا عن ترديد اسم الله، ولو أغلقنا عقولنا على ما عرفناه لخسرنا ما كان يجب أن نعرفه .
إنها دعوة للمصالحة بالحكمة والموعظة الحسنة بين الإنسان وربّه، بين الإنسان والإنسان، ليس فيها مصادرة لرأى أو تحقير لفكر، ولا هجوم على أهل تخصص. ولا يزال هناك ما فاض الله به علينا ويستحق القول والمناقشة والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة “ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعفف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله” وصدق الله إذ يقول: “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنّه ولى حميم”.