في العصر الرقمي والانفتاح التكنولوجي، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي ساحةً مفتوحة لكل من يملك كاميرا وهاتفًا ذكيًّا، ما جعل من الممكن لأي شخص أن يصبح “صانع محتوى”. وبينما ظهر العديد من صنّاع المحتوى الإيجابي الذين يُثرون العقول، ويساهمون في بناء الوعي ونشر القيم، طغت في السنوات الأخيرة ظاهرة خطيرة تهدد نسيج المجتمع وتنسف ما تبقى من الأخلاق، وهي ظاهرة صنّاع المحتوى الهابط الذين لا يقدمون سوى السلوكيات الشاذة من أجل حصد المشاهدات والأموال، حتى لو كان الثمن هو ضياع القيم وتشويه الهوية الأخلاقية للمجتمع.
ومع ازدياد الإقبال على المنصات الرقمية، أصبح المقياس الرئيسي للنجاح هو عدد “المشاهدات” و”الإعجابات”، وليس جودة المحتوى أو فائدته. وهنا بدأ بعض الأشخاص، وخصوصًا من فئة الشباب، يسلكون طرقًا غير أخلاقية أو مبتذلة لجذب الانتباه، من خلال الإيحاءات الجنسية، والسخرية من الدين، والتعدي على الآخرين، ونشر الخصوصيات، وحتى تمجيد العنف والبلطجة.
وبدلًا من أن يكون صانع المحتوى قدوة، أصبح كثير منهم مصدرًا للانحراف والسطحية، يحاكيهم الأطفال والمراهقون، ويقلدون حركاتهم وكلماتهم، دون إدراك للعواقب النفسية والسلوكية.
ومما لا شك فيه أن القيم المجتمعية تأثرت بشكل واضح بسبب ما يقدمه هؤلاء من محتوى هابط، فبدلًا من نشر ثقافة الاحترام والصدق والعمل الجاد، أصبح النموذج القدوة هو من “يصنع ترندًا” بالسخرية من والدته مثلا، أو بالإساءة لزوجته، أو بالإتيان بتصرفات منافية للحياء. ومن ثم، ترسخت في أذهان الشباب فكرة أن النجاح لا يحتاج إلى اجتهاد أو علم، بل يكفي أن تكون صادمًا ومبتذلًا لتصل إلى الشهرة.
بل إن البعض بدأ يُقلل من شأن أصحاب المهن الحقيقية والرسالة الهادفة، وأصبح صانع المحتوى التافه يُعامل كـ”نجم”، ويُستضاف في البرامج، وتُفتح له أبواب الإعلانات والأرباح، بينما يُهمّش المثقفون والعلماء والمبدعون الحقيقيون.
ولا يخفى على أحد أن تكرار مشاهدة هذا النوع من المحتوى يسبب تبلدًا أخلاقيًّا وتطبيعًا مع السلوك الشاذ، فالمراهق الذي يشاهد شخصًا يشتم والديه أو يُهين زوجته بشكل ساخر، قد يفقد تدريجيًّا احترامه لقيمة الأسرة، ويبدأ في استنساخ هذا النموذج دون وعي.
وبما أن الأطفال والمراهقين هم أكثر فئة استخدامًا للهواتف والمنصات، فإن تأثير صنّاع المحتوى الهابط عليهم أكبر مما نتخيل. وهذا قد يؤدي إلى انتشار ظواهر التنمر والعنف وفقدان الاحترام الأسري وتراجع القيم الدينية والاجتماعية وانهيار لغة الحوار وتدني الذوق العام .
ولا يمكن تحميل صنّاع المحتوى وحدهم المسئولية، فهناك سلسلة متشابكة من الجهات تتحمل هذا الانهيار الأخلاقي، أهمها الأسرة والمدرسة والمسجد والكنيسة ومراكز الشباب علاوة على المستخدمين أنفسهم وصناعة المحتوي .
والحل لا يكمن في الرقابة وحدها أو الحجب، بل في إعادة بناء الوعي الأخلاقي والذوق العام. ومن أبرز الخطوات:
.. نشر البديل الإيجابي من خلال دعم وتشجيع صنّاع المحتوى الهادف والمؤثر.
.. التربية الرقمية داخل المنازل، بحيث يتعلم الأبناء كيف يقيّمون المحتوى، ويميزون بين الغث والثمين
وسنّ تشريعات قانونية واضحة تجرّم نشر المحتوى الفج أو المحرض على الانحراف أو العنف أو الفساد.
إن ما نشهده اليوم من سطوة للمحتوى الهابط ليس مجرد ظاهرة ترفيهية، بل هو معركة قيم حقيقية، يخوضها المجتمع في مواجهة التفاهة والتردي والسطحية. ومن الخطير أن نُسلّم أطفالنا لهذه التيارات دون وعي، أو نضحك على مشاهد السخرية دون أن ندرك أنها تهدم أساسات أخلاقية بُنيت عبر أجيال.
فالمطلوب ليس أن نغلق الإنترنت أو نحرم أبناءنا من التكنولوجيا، بل أن نعلّمهم كيف يستخدمونها بوعي، وكيف يرفضون القبح، ويتمسكون بالجمال والفكر والاحترام. فصناعة الوعي تبدأ من كلمة، وقد تكون هذه الكلمة فيديو عابر من صانع محتوى، فإما أن يُهذب، أو يُخرب.