تنفطر قلوبنا حزنا على الدم الفلسطيني المُراق في حرب التجويع والإبادة التي يشنّها العدو الصهيوني صباح مساء على غزّة، لكن قلوبنا تنفطر أكثر وأكثر عندما يتفرّق شملُنا وتضطرب صفوفنا، وتمضي فينا مخطّطات الفتنة، فتتحوّل الحرب مع العدو إلى حرب بين الأشِقَّاء، وننشغل بخلافاتنا وتناقضاتنا وصراعاتنا عن عدوّنا الحقيقي، ويصبح بأسُنا بيننا شديدا، وتضيع منّا البوصلة فلا نعرف في أي اتجاه يكون غضبُنا، وعلى من نصوّب سلاحنا، ونكتشف في النهاية أننا وقعنا في الفخ، وأننا نحارب في الجبهة الخطأ.
إن من أهم أهداف عدوّنا وأقدمها إثارة البغضاء والكراهية بين الأشقاء حتى لا نجتمع على كراهيته ومقاومته، وقد عمل ومازال يعمل على خلْق عدوٍّ بديل من أنفسنا، أو عدوّ مواز، خصوصا في هذه اللحظة التاريخية المفصلية التي خرجت فيها شعوب العالم تتظاهر ضد جرائمه وتهتف بالحرية لفلسطين، واتجهت بعض الدول الكبرى إلى تصحيح مواقفها التاريخية بإعلان اعتزامها الاعتراف بالدولة الفلسطينية، بينما يتظاهر بعضنا ضد بعض، ويهتف بعضنا ضد بعض، كأننا فقدنا الذاكرة ونسينا من هو العدو ومن الصديق ومن الشقيق، وفقدنا الوعي بأن هذا الوضع المقلوب يخدم مصالح الاحتلال ويهدّد أمننا القومي المشترك ويقوّض جهود التضامن العربي، حتى لو كان هذا التضامن في أدنى صوره.
ليس من الدين ولا من الكيَاسة الوطنية والسياسية أن ينحرف بعض الإخوة عن المسار الصحيح بتصرّف مريب في توقيت مريب، لتحويل الأنظار عن الجريمة النكراء التي يرتكبها الاحتلال وحلفاؤه الأمريكيون في غزة، فبدلا من التظاهر والهتاف لفضح الانتهاكات الإسرائيلية الوحشية المدعومة أمريكيا، يتحوّل التظاهر والهتاف في الاتجاه المعاكس، وبدلا من مساندة الجهود المبذولة لإيقاف الحرب وفتح المعابر وإدخال المساعدات والمعونات الإنسانية، ينطلق خطاب الكراهية والاتهامات المتبادَلة بين الأشقاء، وتتحقّق للعدو أغلى أمانيه فيستخدم هذا الوضع للتعتيم على جرائمه.
إن أبغض وأخبث ما حدث منذ بدء طوفان الأقصى هو هذا الفخ الذي نصبه لنا الصهاينة، والوقيعة التي نجحوا في تأجيجها بين أبناء الدم الواحد، حتى دخلنا إلى دائرة “ظُلم ذوي القربى”، ولذلك يجب على عقلاء الأمّة الإسراع إلى تصويب الخلل والعودة بنا إلى طريق الرشاد، لممارسة كل أشكال وأساليب الضعظ على إسرائيل وأمريكا، وأن تكون وجهة نضالنا هي المحتل الغاصب الذي يستهدفنا جميعا بلا استثناء، ويأخذنا على مراحل، ويريد أن يقلب التاريخ رأسًا على عقب لينتقم منّا، فقد كان اليهود طوال قرون أهل ذمّة بين المسلمين، واليوم يريد نتنياهو وعصابته تحويل المسلمين إلى أهل ذمّة بين اليهود الذين يخطّطون لأن تكون لهم السيادة في الشرق الأوسط الجديد.
لقد نجح الصمود الأسطوري لأهل غزّة في هزيمة الحلم الإسرائيلي من خلال تمسّكهم بأرضهم ورفضهم للتهجير، ونجحت المقاومة الباسلة في إحياء القضية الفلسطينية وتحويلها إلى قضية عالمية، ولم يستطع نتنياهو وترامب أن يفرضا شروطهما على هذه المقاومة التي تحارب بعقيدة صلْبة، وفشلا في تركيع رجالها الأشداء، سواء في ميدان الحرب أو على مائدة المفاوضات، وعجزا عن إجبارها على رفع الراية البيضاء، وثبت يقينا أن العقيدة التي هزمت الفرس والروم قديما لن تهزمها اليوم أمريكا وإسرائيل، وأن هذه العقيدة التي تعدُ أصحابها بالجنّة مقابل الموت يصعب الانتصار عليها.
وإذا كانت أوروبا قد استشعرت مسئوليتها التاريخية وأرادت أن تكفِّرعن جرائمها الاستعمارية القديمة تجاه فلسطين وأهلها، وتنضم إلى 147 دولة تعترف فعليًّا بالدولة الفلسطينية، فلن يمُرَّ وقت طويل حتى تجد أمريكا نفسها وحيدة في الخندق الإسرائيلي، منبوذة من الرأي العام العالمي والمحلّي الذي بات يدرك أن إسرائيل هي سبب الحروب والتوتّرات المتلاحقة في الشرق الأوسط وفي العالم لأطماعها التوسّعية ورفضها الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وأن الدعم الأمريكي اللامحدود واللامنطقي للمتطرّفين الصهاينة هو الذي يهدّد الأمن والسلام الدوليِّيَّن وليس الأبطال الذين يحاربون لتحرير وطنهم.
ووسط هذا الزخم العالمي لا يجوز لنا ولا يصح أن ننقل الحرب إلى صفوفنا، ونتبارى في معركة التنابز السياسي والأيديولوجي وتبادل الاتهامات، لأننا بذلك نساعد عدوّنا علي التنصّل من جرائمه، والتهرّب من طوفان العقوبات التي يتعرّض لها من شعوب الأرض، ونهزم أنفسنا بأنفسنا بغير عقل وبغير علم في صراع الوجود.