“إليْكِ نَموتُـ مِصْرُـ كما حَيينا* ويَبقَى وَجهُكِ المَفْدِيُّ حَيَّا”
نعم نموت ؛ويبقى وجهك الحضاري المشرق عزيزًا أبيًّا يا مصرنا يا عزيزة ..نعم نموت؛ ويبقى عِرضك تامًّا شريفًا ،طاهرًا قُدسيًا ،يا تُربة الصّبا ،ياعِرضي ووجُودي وهُويّتي وتاريخي وأمجادي ،ولِمَ لا؟! ،وأنت كِنانة الله في أرضه ،وأنت أرض الأنبياء ،وأنت الأرض التي تجلّى عليها ربّنا سبحانه وتعالى دون غيرها من الأراضين ،وأنت أنت كلّ مُقدّسٍ جميل ،يكفيكِ شرفًا أنْ قلّدكِ المولى بهذه القلادة الربّانية العظيمة ؛هذه الآية الكريمة التي مازال التاريخ يتبتّل بقدسيتها ،وتشدّ الركبان الرحال من عوالم كون الله الفسيح لائذة بأنوارها آمنة مطمئنة {…ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} يوسف :(99) ،وقال عنك المصطفى (صلّى الله عليه وسلّم) ،والذي ذكره العجلوني في كشف الخفاء ،عن عمرو بن العاص قال :حدّثني عمربن الخطاب أنه سمع رسول الله يقول :”إذا فتح الله عليكم مصر بعدي ،فاتّخذوا فيها جُندًا كثيفًا ،فذلك الجند خير أجناد الأرض” ،قال أبوبكر :ولِمَ ذلك يا رسول الله؟ قال:” إنهم في رباط إلى يوم القيامة” ،وعن أبي بصرة الغِفاري أنه قال:” مِصرُ خَزائنُ الأرضِ كُلِّهَا ،وسُلطانُها سُلطانُ الأرضِ كُلِّها ،ألا ترى إلى قول يوسف عليه السلام:{…اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} يوسف: من الآية (55)، ففعل؛ فأُغيثَ بمصر وخزائنها يومئذ كلّ حاضرٍ وبادٍ من جميع الأرض”،وغير ذلك لا حصر له مِمَّا أودعه ابن عساكر في مقدمة تاريخه ،وكم لمصر وأهلها من المفاخر في الإسلام تغمر كثيرًا من كتب القدماء والمعاصرين.
ولا تجد الإنسانيةُ أقدسَ وأصدقَ كتابٍ سوى القرآن الكريم ؛معجزة الحبيب المصطفى، احتفى بمصر بمثل هذا الاحتفاء الربّاني ،تشريفًا لها وتكريمًا ،وإجلالًا لها وتعظيمًا ،فبيّن ربّنا اسمها صريحة في أربعة مواضع ،فقال تعالى: {ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ}، وقال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} يونس: (87) ،وحكى ربّنا قول فرعون:{ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} الزخرف:(51). وليس هذا وحسب ؛بل أشار الله تعالى إلى مصر ولم يصرّح باسمها وذلك ،في ثلاثين موضعًا من كتابه المجيد ،منها قوله تعالى:{ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا} القصص:(15) ،يعني مصر، وقوله:{ وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ} الأعراف:(127) ،يعنون مصر، وقوله:{ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} يوسف: (21)؛أرض مصر، وقوله:{ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ} سورة التين: (1-2)،” طور سيناء” الذي كلَّم الله عليه موسى تكليمًا، والذي لم نفرّط في شِبرٍ منه ولو اجتمعت الدنيا علينا.. إنها مصر العظيمة.
“مصرُ العظيمةُ.. والعروبةُ أُمّةٌ * عُظْمى بفضلِ الله تَفعلُ ما تَشَا”.
إنها مصر ؛الأرض الطيبة التي قال الله عنها لما طهرها من فرعون وقومه: {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ* وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ* كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} الدخان ( 25- 28). إنها مصر التي لم يذكر الله قصة نهر في قرآنه العظيم إلا نهرها الخالد ؛نهرالنيل ،وذلك في قوله تعالى:{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} القصص: (7) . قال الكِنديّ: “لا يُعلم بلد في أقطار الأرض أثنى الله عليه في القرآن بمثل هذا الثناء ،ولا وصَفَه الله بمثل هذا الوصف ،ولا شهد له بالكرم ،غير مصر”. مصر أرض النبوات ؛التي وُلِد على أرضها موسى وهارون عليهما السلام ،وعاش على أرضها سيدنا إبراهيم خليل الرحمن ،وتزوّج منها ،ودخلها نبي الله يعقوب عليه السلام وأولاده الأحد عشر، وسبقهم إليها نبي الله يوسف عليه السلام ،وقدِم إليها نبي الله عيسى ابن مريم عليه السلام.
ومن أهل مصر يذكرُ القرآنُ الكريم مُؤمِنَ آل فرعون البطل الثابت على الحق الذي قال الله عنه: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ } غافر: (28)، ومنهم ذلكم الرجل المؤمن الذي حذّر موسى (عليه السلام) :{وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} القصص:(20) .ومنهم القانتات العفيفات :آسية امرأة فرعون ،وأم إسحاق ،ومريم ابنه عمران ،وماشطة بنت فرعون .ومنهم السحَرة من أهل مصر الذين ذكر الله تعالى قصتهم لما آمنوا وصدقوا ،وكانوا في أول النهار سحرة فجرة ،وصاروا في آخر النهار شهداء بررة ،إنها بلاد الأبطال مصر الحاضرة في كُلّ جفرافيا عالمية ،مهوى الأفئدة من كل حدب وصوب ،مصر العصية على الانكسار،العصيّة على الغياب، النبيلة التي لا تباع ولاتُشترى .مصرالقوافي الأصيلة التي غنّتها على أوتار القلوب تجارب شاعرها الوطني النبيل ،مهندس القصيد العربي ثروت سليم.
مِصرُ وما مصرُ إلّا آيةٌ نــزلتْ** من السّماءِ فلا زيدٌ ولَا عـمرو
محروسةٌ بِجُنودِ اللهِ مَا انْكَسَرتْ** مِنْ كُلِّ عادٍ على أبوابِها صَخْرُ
جيشٌ وشعبٌ وتــاريخٌ ومـدرسةٌ** يُرفرفُ الآنَ في عَليائِهِمْ صَقْرُ
نَمُوتُ ..نَحْيَا ،ومِصْرُ الأُمُّ تَحْمِلُنَا** نُورًا، ونُبعثُ في أرواحِنَا صَبْرُ.
يُتبع بإذن الله.