التسامح والتعايش بين الأديان.. تنوع حضاري ورسالة سلام للعالم
“مجمع الأديان”.. يجسد التنوع الديني الذي عرفت به مصر في تاريخها
الرحلة بدأت بالكنيسة المعلقة.. مروراً بـ”أبي سرجة” ومسار العائلة المقدسة
ومعبد بن عزرا.. وانتهاء بجامع عمرو بن العاص
سامح عبدالله: الهوية المصرية تشكلت هنا
المشاركون: ضرورة لبناء الوعي وإعادة اكتشاف الذات والانتماء
تابع الرحلة: محمد لملوم
يعد “مجمع الأديان” التاريخي في منطقة مصر القديمة شاهدًا على التسامح والتعايش السلمي بين الأديان المختلفة، حيث يضم آثارًا للديانات السماوية الثلاث: “الإسلامية، والمسيحية، واليهودية”، وتتعايش فيه المساجد والكنائس والمعابد جنبًا إلى جنب، ما يعكس روح المحبة والتفاهم بين أتباع هذه الديانات، ورسالة سلام من مصر.
وانطلاقاً من هذه المبادئ العظيمة التي تتفرد بها مصر على مستوى العالم، نظمت الهيئة الوطنية للصحافة، برئاسة المهندس عبد الصادق الشوربجي، جولة ميدانية لعدد من الصحفيين المشاركين في دورة “إعداد الكوادر الصحفية”، إلى “مجمع الأديان”، وتضمنت الجولة زيارة “الكنيسة المعلقة”، و”كنيسة أبي سرجة”، و”مسار العائلة المقدسة”، و”المعبد اليهودي بن عزرا”، وختامًا “جامع عمرو بن العاص”.
الكنيسة المعلقة
بدأت الجولة من الكنيسة المعلقة، إحدى أقدم وأشهر الكنائس القبطية في مصر والعالم، حيث اصطحب المشاركين الكاتب الصحفي الكبير سامح عبدالله، مدير تحرير الأهرام، ومسئول التدريب بالهيئة الوطنية للصحافة، الذي قدّم شرحًا وافيًا لتاريخ الكنيسة.
وأوضح عبدالله، أن الكنيسة يعود تاريخها إلى القرن الثالث الميلادي، وبُنيت أعلى برجين من أبراج حصن بابليون، ما جعلها تبدو معلقة، وهو سبب تسميتها، وتتميز بطرازها المعماري القبطي النادر، وتحتوي على مقتنيات أثرية مهمة مثل “المنبر الرخامي” القائم على 13 عمودًا يمثلون السيد المسيح وتلاميذه، بالإضافة إلى أكثر من 100 أيقونة أثرية.
وأشار إلى أن الكنيسة تضم أيضًا بئرًا أثريًا يُعتقد أن العائلة المقدسة شربت منه خلال وجودها في مصر، ما يمنح الموقع مكانة روحية عالمية، ويجعله مقصدًا هامًا للزوار من مختلف أنحاء العالم.
كنيسة أبي سرجة
ثم توجهت المجموعة الصحفية إلى كنيسة القديسين سرجيوس (أبي سرجة)، حيث واصل سامح عبدالله تقديم الشرح، مشيرًا إلى أن الكنيسة تُعد من أقدم كنائس مصر، وتكتسب أهميتها الكبرى من احتضانها للمغارة التي يُعتقد أن العائلة المقدسة احتمت بها أثناء رحلتها المباركة إلى مصر.
وأوضح أن هذه المغارة المحفورة في باطن الأرض، تُمثل أثرًا حيًا لتاريخ مقدس، يحمل دلالات عميقة على الرعاية الإلهية، وعلى ارتباط مصر برسالة السماء، وأضاف قائلاً: “إن الصحفي لا يمكنه إدراك حقيقة هوية بلاده دون المرور على مثل هذه المعالم، والتي تحمل مزيجًا من التاريخ والإيمان والتسامح”.
العائلة المقدسة
خلال الجولة، أتيحت للمشاركين فرصة تتبع مسار العائلة المقدسة داخل مجمع الأديان، بدءًا من المغارة وحتى البئر التاريخي، حيث شعر الجميع بخشوع كبير أمام هذا الإرث الديني والإنساني النادر، الذي يُعد جزءًا من التراث العالمي، ويُشكل ركيزة مهمة في مشروع الهوية الوطنية المصرية.
معبد بن عزرا
بعدها، انتقلت الجولة إلى المعبد اليهودي بن عزرا، حيث قدم محمد حسن، أحد المسئولين بالمعبد، شرحًا توثيقيًا لتاريخ هذا المعلم الفريد، الذي يعود للقرن التاسع الميلادي.
وأشار حسن إلى أن المعبد يحمل طرازًا معماريًا فريدًا يمزج بين الروح الإسلامية والطابع الفرعوني، ويحتوي على مقتنيات دينية نادرة، منها نسخ قديمة من التوراة ومخطوطات عبرية محفوظة في خزائن زجاجية. كما أوضح أن المعبد كان يضم غرفة “الجنيزا”، التي حُفظت بها الوثائق القديمة الخاصة بالجالية اليهودية في مصر، مما يمنحه أهمية تاريخية وثقافية كبيرة.
ولفت إلى روايات تشير إلى ارتباط الموقع بقصة النبي موسى عليه السلام، حيث يُعتقد أن التابوت الذي حمله تم العثور عليه في هذه المنطقة، مما يضفي قدسية خاصة على المكان.
جامع عمرو بن العاص
اختُتمت الجولة بزيارة جامع عمرو بن العاص، أول مسجد أُسس في مصر وإفريقيا، والذي بُني عام 641م بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بعد الفتح الإسلامي على يد القائد عمرو بن العاص.
واستعرض الدكتور ياسر مغاوري، إمام وخطيب مسجد عمرو بن العاص، التاريخ العريق لـ”تاج الجوامع” وأول مسجد أُسس في مصر وإفريقيا، مشيرًا إلى أن مسجد سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه، يمثل صفحة ناصعة في تاريخ العمارة الإسلامية والدعوة في مصر.
وأوضح أن المسجد بُني عام 21 هـ / 641م بأمر من الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بعد فتح مصر على يد القائد الجليل عمرو بن العاص، ليكون نواة أول مدينة إسلامية في مصر، وهي مدينة الفسطاط.
وأشار د. مغاوري إلى أن البناء الأول كان بسيطًا، من الطوب اللبن وسقف من الجريد مدعوم بجذوع النخل، دون محراب أو مئذنة، لكن المسجد شهد توسعات متتالية على يد خلفاء وولاة الدولة الأموية والعباسية والفاطمية، وصولًا إلى العصر الحديث، حيث حظي باهتمام خاص من الدولة المصرية، أبرزها في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، ثم في عهد فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي شمل المسجد برعاية خاصة ضمن جهود الحفاظ على الهوية الحضارية والدينية لمصر.
وأكد أن المسجد لم يكن فقط مكانًا للصلاة، بل كان منارةً للعلم، شهد دروس كبار الأئمة مثل الإمام الشافعي والليث بن سعد، وما زال حتى اليوم يستقطب المصلين والزائرين من داخل مصر وخارجها، باعتباره أحد رموز التسامح والتاريخ الإسلامي العريق.
واختتم كلمته بالتأكيد على أن زيارة مجمع الأديان الذي يجمع مسجدًا وكنيسةً ومعبدًا في مكان واحد، هي تجسيد عملي لقيم التعايش والتنوع الحضاري والديني الذي يميز مصر عبر العصور.
انطباعات المشاركين
لم تكن الجولة الميدانية إلى مجمع الأديان بمصر القديمة مجرد رحلة تثقيفية عابرة، بل شكّلت محطة استثنائية من محطات التكوين المهني والوجداني للصحفيين المشاركين في دورة “إعداد الكوادر الصحفية”، حيث اجتمع التاريخ الإنساني والروحي في مشهدٍ نادر، أعاد للصحافة معناها الأصيل أن تكتب لتنير، وتُعايش لتعبر.
أجمعت شهادات الزملاء المشاركين على أن الجولة لم تكن فقط من أنجح الفعاليات التدريبية، بل من أعمقها أثرًا في تشكيل الوعي، وإعادة اكتشاف الذات، والانتماء، وتقدير جوهر المهنة، بعيدًا عن التنظير، ومن قلب المكان الذي يجسد التسامح والتاريخ معًا.
قالت رشا سعيد، جريدة المساء، اليوم فقط، عرفت مصر القديمة حقًا، كنت أمر يوميًا بمحطة مار جرجس دون أن أعلم أنني أقف على أرضٍ احتضنت الكنيسة المعلقة، وحصن بابليون، وجامع عمرو بن العاص.
وأضافت، “لم تكن الجولة مجرد معرفة، بل صحوة تاريخية، ولولا إصرار الأستاذ سامح عبد الله على تطوير وعينا وذواتنا، ما اكتسبت هذه الرؤية الجديدة، أشكره من قلبي، فقد منحنا مفاتيحًا لفهم الوطن والتاريخ والناس، دمت لنا أبًا ومعلمًا.”
أما فادية البمبي، مساعد رئيس تحرير الأخبار، قالت: “في لحظة من الزمن، أخذتنا خطواتنا إلى قلب مصر القديمة، حيث يهمس الحجر بذكرى الأنبياء والقديسين، لم تكن جولة تدريبية عادية، بل رحلة روحية نظمتها الهيئة بروح مختلفة، من الكنيسة المعلقة إلى مغارة أبي سرجة، ثم معبد بن عزرا، كنا ننصت للسكينة والتسامح، ونرى بأعيننا كيف تنصهر الأديان في بوتقة الوطن، لحظات ستبقى خالدة في ذاكرتي المهنية والإنسانية”.
من جانبه، أكد محمود درغام، مجلة أكتوبر، أن الجولة كانت جزءًا من برنامج تدريبي مميز، لكنه تجاوز التوقعات، حيث تعرفنا على أقدم الكنائس، وأقدس المغارات، وعلى جامع عمرو بن العاص، أول معالم الدولة الإسلامية في مصر.
ووجه الشكر للأستاذ سامح عبد الله على الشرح الوافي، والروح التي أضفاها على الزيارة، معرباً عن أمله تكرار مثل هذه الجولات في مواقع أثرية أخرى، لأنها تثري الصحفي بالمعرفة والمعايشة في آن واحد.
أما محمود جودة، نائب رئيس تحرير روزاليوسف، أشاد بدور الهيئة الوطنية للصحافة فى تنفذ رؤية حقيقية لبناء الإنسان، تبدأ من تطوير فكر الصحفي، وتمر بإكسابه مهارات شاملة، من خلال دورة إعداد الكوادر.
وقال: “تعلمنا كيف نخلق الفكرة الصحفية، ونصيغها بحرفية، فالأستاذ سامح عبد الله لم يكن مدرباً فقط، بل مايسترو يُخرج من كل صحفي أفضل ما فيه”، مؤكداً أن زيارة مجمع الأديان كانت مثالًا حيًّا على الجمع بين المعلومة والمعايشة، وبين المهنة والرسالة.
من جانبه، يقول محمد طاهر، أخبار اليوم، “زرنا قلب التسامح الإنساني في مصر القديمة، والذي يمثل أيضاً التاريخ الديني والحضاري في مكان واحد، وشعرت أنني أعيش مشهدًا حيًّا من كتاب التاريخ، لكن بنبض معاصر وروح مهنية جديدة، شكراً لهذه الفرصة الثمينة، التي جعلتنا نرى بأعيننا ونكتب من القلب.”
اختتمت الجولة ولسان حال المشاركين يقول: إن ما بدأ كجولة تدريبية انتهى كمحطة وعي، وبوصلة انتماء، ودعوة لأن تكون الصحافة ذاكرة الوطن لا مجرد خبر، ووجهوا الشكر لكل من شارك، ولكل من آمن بأن المعرفة لا تُمنح فقط في القاعات، بل تُولد في ميادين الوطن وروحه.