يظلُّ الكتابُ الركيزة الأهمّ في مسيرة بناء الوعي الإنساني، والقراءة الواعية تُسهم في حماية المجتمع من التطرّف والانغلاق والخلَل السلوكي، وتدفع نحو فِهم دقيق متوازن للدين والحياة، ينعكس على المجتمع فيظهر المُبدع والمبْتكر والمفكِّر ومن هنا تُصْنَع الحضارة.
لقد كانت القراءة مؤشِّرًا يؤشِّر إلى إحداث نُقلة نوعية في القيم وبناء الأُمم، وذلك عند نزول قول الحق تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق: 1] في ابتداء الوحيّ الشريف إلى الجَنَاب الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم؛ وعلى أنوارها بدأ استشعار أهمية القراءة، والاهتمام بالعِلْم في الاسلام، وتأيَّد ذلك بنصوصِ الوحيّ الداعية إلى سلوك المسالِك المتوازنة لحفظ العقول، وتنمية الوعي، ومن تلك المسالك القراءة قطعًا.
إن الأمر بالقراءة في الآية لم يكن أمرًا بأن نقرأ ألفاظًا وحروفًا وأشكالا ورموزًا، وإنما الأمر بالقراءة المستوعِبة بمعناها المشتمل على الوعي، والفهم، والسعي إلى الحقيقة، فشتّان بين قارئ يلتقط العبارات كما تَلتقط الطيورُ الحَبَّ، وقارئٍ يغوص في المعنى كما يغوص الغوَّاص على اللؤلؤ، لا يرضى بالصَدَف، بل يُفتِّش عن الجوهر.
العجيب في الأمر أن الإسلام لم يكتف بالحثِّ على القراءة والأمر بها على هذا النحو المستوعب، بل تطرّق إلى الآداة التي يكتب الكاتبون بها الكتب وهو: “القلم”، فقال جل شأنه: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) [القلم: 1]، دلالة على شرف الكتابة والتدوين وتأليف الكتب وأثرها في حفظ العلوم.
هنا نرى الإسلام الشريف يؤسِّس عملية التأليف والوعي التي يخرج في منتهاها كتابٌ علميٌ، يُنشئ حوارًا راقيًا بين عقْلين: عقل القارئ وعقل الكاتب، ليس حوارًا بين ندّين، بل بين عارِضٍ لثقافته ومستقبِل لها، بين من يسأل ومن يُجيب، بين من يتحسَّس طريقه في الظلام ومن يُمسِك بالشُعلة. فلا عجب إن كانت القراءة بابًا لتوسيع المدارِك، وتحرير الفكر من قيود البيئة والمحدود، إلى رحابة الزمان والمكان، بل إلى أعماق النفس الإنسانية.
إن الهدف من القراءة والكتاب كما نرى هو بناء الوعي الآمن للعقل الإنساني وما يترتّب عليه من الحماية من المسالِك المنحرِفة فكريًّا وعَقَدِيًّا، لقد قالوا– عن صواب– إن أمَّةً لا تقرأ أمّة لا تعرف، والمراد القراءة الواعية، لأنها هي البصيرة، المستمَدَة من أنوار (اقرأ) أول كلمة نزل بها الوحي على الجنَاب المعظَّم- صلى الله عليه وسلم- الذي أُرسل ليُخرِج الناس من الظُلمات إلى النور، وعليه فإن القراءة الواعية تُخرِج الإنسان من ضيق العادة إلى سِعة الإدراك، ومن أسْر الانفعال إلى حرّيّة التفكير، وهي بهذا ليست جُهدًا ذهنيًّا فحسب، بل عملية تحوُّل، بل ثورة داخلية على الجهل، والسكون، والتلقين.
فأَقْرَأْ لتعي، واقرأ لتُحاوِر، واقرأ لتبنِي عقلَك كما تبني بيتك، ولا يكن عقلُك بيتًا من قشٍّ، تهدمه أول ريح، بل اجعله حصنًا من حُجَّةٍ، وسقْفًا من فِهم، وأساسًا من وعي.