د. مصطفى الحلوس: قيود السنِّ تهدِّد مستقبل القراءات
د. عبدالفتاح خضر: رفع السن ضرورة لإنقاذ كلية القرآن
د. أحمد الطباخ: تهديد لرسالة المعاهد.. والقرار مفاجئ
تحقيق: محمد لملوم
على مدى قرون، ظلت معاهد القراءات الأزهرية في مصر حصونًا منيعة لحفظة القرآن الكريم، ومنارات علمية وروحية خرّجت أعلام التلاوة وصدّرتهم للعالم الإسلامي. غير أن هذه الصروح العريقة تواجه اليوم أزمة غير مسبوقة تهدّد دورها التاريخي، بفعل قرارات إدارية جديدة تقيّد سنّ القبول في مراحلها المختلفة، وتضع حواجز تحول دون استكمال خرّيجيها لمسيرتهم التعليمية في كلية القرآن الكريم. أزمة تتشابك فيها قيود السنّ مع إغلاق بعض المعاهد وقلّة الأعداد، لتثير مخاوف العلماء والمهتمين من انحسار دور الأزهر في الإقراء، وضياع إرث علمي وروحي حملته مصر قرونًا للعالم الإسلامي.
هذه المعاهد، التي فتحت أبوابها منذ إنشائها لكل حافظٍ لكتاب الله دون قيود على السنّ، كانت رمزًا لرسالة الأزهر الخالدة في خدمة القرآن.
لكن، في السنوات الأخيرة، بدأت رياح التغيير العاصفة تطرُق أبوابها، ففرضت عليها قيودًا ومعوّقات أثارت جدلًا واسعًا، من غلق عشرات المعاهد بحجّة قلّة الأعداد، إلى تقييد سنّ القبول، مرورًا بقرارات حرَمَت خريجيها من استكمال مسيرتهم التعليمية في كلية القرآن الكريم. قرارات وصفها كثيرون بأنها تضييق على أهل القرآن، وتهديد لصرح علمي عريق حمل أمانة حفظ كتاب الله جيلًا بعد جيل.
ففي وقت يشهد فيه العالم الإسلامي عطَشًا متزايدًا لقرّاء مُتقنين وحفّاظ متمكّنين، يواجه اثنان من أعرق الصروح الأزهرية المتخصصة في علوم القرآن الكريم “معاهد القراءات، وكلية القرآن الكريم” خطر الانكماش وربما الإغلاق، نتيجة قرارات جديدة لتقييد سنّ الالتحاق بهما. فقد قُصِر سنّ القبول في مرحلة العالية بمعاهد القراءات على 22 عامًا فقط، رغم أن هذه المرحلة تستغرق ثلاث سنوات، يليها ثلاث سنوات أخرى في مرحلة التخصص، ما يعني أن الطالب الذي يلتحق بالعالية في سنّه الأخير المسموح سيصل إلى عمر 28 عامًا عند تخرّجه، فيُحرم من استكمال دراسته بكلية القرآن الكريم التي تشترط ألا يزيد عُمر المتقدّم على 26 عامًا. قرارات وصفها أساتذة بجامعة الأزهر ومعاهد القراءات بـ”الكارثية”، لما تحمله من تهديد مباشر لدورهما التاريخي في تخريج أعلام التلاوة وتزويد الأمّة بحَمَلة القرآن، ولما قد تسبّبه من فجوة خطيرة في مسار إعداد الكفاءات المؤهَّلة لخدمة القرآن ونشْر علومه. ورغم هذه العقبات، ما زالت معاهد القراءات تحتفظ بوهجِها في قلوب طلابها، فهي ليست مجرد فصول للدراسة، بل ساحات روحانية يتربّى فيها الجيل على حبّ القرآن وأدب التلاوة وحفظ السَنَد المتّصل. ويناشد العلماء الجهات المختصة إعادة النظر في القرارات المقيِّدة، وتوسيع أبواب القبول من جديد، حفاظًا على هذا الميراث العلمي الفريد، وصونًا لرسالة الأزهر في تخريج حَمَلة كتاب الله، ليبقى صوته عاليًا عبر الأجيال “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”.
تهديد علم القراءات
من منطلق تخوُّف د. مصطفى الحلوس- الأستاذ المساعد بقسم القراءات بكلية القرآن الكريم- على مستقبل علم القراءات ودارسيه، يقول: القرارات الأخيرة “تخيفه جدًا”، ويعتبرها تهديدًا لمستقبل معاهد القراءات، ولدورها التاريخي في خدمة القرآن، ونشر علومه في بقاع الأرض. موضحًا أن المعاهد كانت، لعقود طويلة، تستقبل الطلاب دون تحديد سنّ، قبل أن يتم مؤخّرًا فرض قيود جديدة تقصر الالتحاق بمرحلة التجويد على من لا يتجاوز عمره (18) عامًا، وبمرحلة العالية على من لا يتجاوز عمره (22) عامًا.
ويحذّر من أن هذه القيود تصطدم بشروط الالتحاق بكلية القرآن، التي تشترط ألا يزيد عُمر المتقدّم على 26 عامًا، ما يعني أن الطالب الذي يبدأ مرحلة العالية عند سنّ (22) عامًا، ويكمل ثلاث سنوات في “العالية”، وثلاثًا في “التخصص”، سيصل إلى (28) عامًا، فيُحْرَم من دخول الكلية.
انحسار دور الأزهر
واعتبر “الحلوس” أن هذه القرارات ربما تؤدى مستقبلًا إلى إفراغ معاهد القراءات من طلابها، وانحسار دور الأزهر في الإقراء، ما ينذر بأزمة كبيرة في العالم الإسلامي الذي تنظر دوله إلى مصر باعتبارها قِبْلَة الإقراء، وحصن علوم القراءات.
ويؤكد أن معاهد القراءات خرَّجت عبر تاريخها أعلام التلاوة مثل: الحصري، مصطفى إسماعيل، عبدالباسط عبدالصمد، محمد المنشاوي، وغيرهم من القرّاء، الذين نشروا القرآن في مشارق الأرض ومغاربها.
تقليص الدارسين
ويأمل د. الحلوس من قيادات أزهرنا الشريف، المشهود لها بالحكمة، وحب الأزهر وطلابه، أن تراجع قرار تحديد سنّ الالتحاق بكلية القرآن؛ حيث إنه سيؤدي إلى تقليص عدد الطلاب، وربما أدى هذا الأمر إلى غلق معاهد القراءات؛ إذ إن جل طلابها يحلمون باليوم الذي يلتحقون فيه بهذا الصرح العظيم، ومن المتوقّع بعد هذا القرار، أن يقلّ عدد طلاب معاهد القراءات الملتحقين بالكلية، وربما لا يتعدّى المائة طالب، في حين أن طلاب الثانوية الأزهرية رغم أهمّيتهم، يحتاجون إلى جهد مضاعَف من أجل الوصول إلى مستوى طلاب تخصص القراءات. واقترح ألا يقيّد سنّ الالتحاق بمعاهد القراءات، وكلية القرآن، كما كان في السنوات الماضية؛ تجنُّبًا لإهدار سنوات من عُمرهم في الدرَاسة، وإن كان لابد من تحديد السنّ، فليكن ثلاثين سنَة لطلاب معاهد القراءات، وأربعين لطلاب الكلية، على أن يتم إعلام الطلاب بهذه الشروط قبل التحاقهم بمعاهد القراءات؛ تجنُّبًا لإهدار سنوات من عُمرهم في الدراسة، ثم حرمانهم من استكمال مسيرتهم العلمية.
اندثار القراءات
وأكد “د. الحلوس” أنه على يقين لا يخالطه شك في أن قيادتنا الحكيمة، ستنظر بعين الرحمة لأبناء القراءات، وسيكون هناك قرار قريب، يفرح قلوبهم، ويزيل ألمهم. منبِّهًا على أن دور مصر الريادي في خدمة القرآن وقراءاته ينبعث من متخصصي علم القراءات، الذين صدَعوا مساجد العالم بأصواتهم. واختتم -أستاذ علم القراءات- حديثه موجِّهًا نداء يحمل في طياته تخوّفًا على مستقبل علم القراءات في مصر الكنانة، حفظها الله، مناشدًا الرئيس عبدالفتاح السيسى، وفضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، ورئيس جامعة الأزهر، أن يتفضّلوا برفع تقييد سنّ الالتحاق بمعاهد القراءات وكلية القرآن، كما كان معمولًا به في السابق، حفاظًا على هذا التخصص النادر الذي يخرِّج أهل القرآن ويحفظ لمصر ريادتها فيه. وقال: إن استمرار هذا التقييد يهدّد باندثار علم القراءات في مهْدِه، ويشكل خطرًا على إرث علمي وروحي لا يُعوَّض، فطلاب هذه المعاهد هم البقية الباقية من حَمَلة هذا العلم، وضياعهم ضياع لتميّز الأمّة في القراءات.
تخصص نادر
من جانبه يرى د. عبدالفتاح خضر- خادم العمادتين بجامعة الأزهر- أن حلّ مشكلة تقييد سنّ الالتحاق بمعاهد القراءات، التي قد تؤدي إلى تجفيف منابع الإمداد بكلية القرآن، يكمن في رفع السنّ إلى 30 عامًا، مع الاعتذار لكبار السنّ، لأنهم يتركون الفرصة للشباب ليعطوا أطول مدّة زمنية في خدمة العلم. موضحًا أن الكلية تعاني من قلّة الحاصلين على درجة أستاذ، فلا يوجد بها حاليًا في مصر أستاذ عامل، والكوادر العاملة من الأساتذة موجودة بالخارج، وبناءً على ذلك فإن تخصص القراءات عزيز ونادر في عدد أعضاء هيئة التدريس.
أشار إلى أن الطلاب القادمين من الثانوية الأزهرية يمكن تقييدهم بسنٍّ معيّنة، نظرًا لأنهم يدرسون نظاميًا من البداية للنهاية، أما طلاب معاهد القراءات فيتقدّمون غالبًا وهم في سنٍّ متأخّرة، ومن حقّهم بعد التخرّج من المعهد أن يُقبلوا نظاميًا في جامعة وكلية، ولا توجد أي كلية أو جامعة تقبلهم إلا كلية القرآن فقط.
ويقترح أن يُترك لطالب القراءات “بحبوحة” في السنّ، مع تنظيم سنّ الدخول لمعاهد القراءات منذ البداية، بحيث ينضبط الأمر بين مصدر الطلاب (معاهد القراءات) ومستقبلهم الجامعي (كلية القرآن)، مؤكّدًا أن تنظيم هذه المرحلة يحتاج فترة زمنية محدّدة، على أن تنتهي الدراسة بالمعهد في سنٍّ لا تتجاوز 30 عامًا، ليتم الالتحاق بالكلية مباشرة. أوضح أن هذا المقترح يخص الطلاب الذكور، لأن الرجل سيصعد المنبر ويؤمّ المسلمين، وسيتم إيفاده إلى دول العالم لتعليم القراءات، بخلاف المرأة التي يمكنها التفرّغ للتعبّد بقراءة حفص ودراسة العلوم الأخرى ودخول بقية الكليات، نظرًا لمحدودية الأماكن المتاحة لهن بالجامعة، وعدم وجود كوادر نسائية متخصصة في علم القراءات على المستوى الجامعي كشهادة معتمدة.
المحافظة على القرآن
وقال د. أحمد الطباخ، أستاذ علم القراءات وعلوم القرآن، مدير معهد قراءات دمنهور بالبحيرة سابقًا: “أنشأت الدولة معاهد القراءات بالأزهر لتكون حصنًا منيعًا للمحافظة على القرآن وقراءاته وعلومه، ولا يُقبل بها إلا من أتم الحفظ كاملًا بعد اجتياز امتحان تحريري وشفهي في الحفظ والتفسير”، مشيرًا إلى أن هذه المعاهد، التي لم يكن للقبول بها شرط سنّ منذ إنشائها، فتحت أبوابها أمام كل راغب في تعلّم القراءات وعلوم القرآن، وخرّجت أجيالًا من كبار القرّاء والعلماء الذين حفظ الله بهم كتابه.
أوضح د. الطباخ، أن الدراسة في هذه المعاهد تمتد لثماني سنوات، موزّعة على ثلاث مراحل: التجويد (سنتان)، عالية القراءات (ثلاث سنوات)، التخصص (ثلاث سنوات)، لافتًا إلى أن الحصول على شهادة التخصص يتيح للطالب الالتحاق بكلية القرآن للقراءات وعلومها، وهي أول كلية متخصصة في القرآن وعلومه على مستوى العالم. وبيّن أن لائحة هذه الكلية منذ إنشائها نصّت بوضوح على قبول الحاصلين على شهادة التخصص دون تقييد بسنٍّ أو بتاريخ الحصول عليها، وهو ما جعلها مقصدًا لكل حافظ يسعى لاستكمال مسيرته العلمية.
قرار مفاجئ
وبيّن “د. الطباخ” أن التضييق امتد إلى كلية القرآن، التي كانت لائحتها تسمح بقبول الحاصلين على شهادة التخصص دون قيد للسنّ، قبل أن يصدر المجلس الأعلى للأزهر فجأة قرارًا بتقييد سنّ القبول بـ 26 عامًا، مع اشتراط الحصول على شهادة التخصص في نفس العام أو العامين السابقين فقط، موضحًا أن القرار أُعلن بعد أن تقدّم الطلاب عبر الموقع الإلكتروني وسدّدوا الرسوم وحدّدت مواعيد امتحاناتهم.
وأكد أن هذا القرار، في توقيته ومضمونه، يضرب قلب معاهد القراءات ويقتل الحافز لدى كثير من حفاظ القرآن، متسائلًا: “ما الذي سيدفع الطالب لقضاء ثماني سنوات من عمره في دراسة علم لا تفتح له أبواب الجامعة؟!”، مشدّدًا على أن علوم القراءات لا تحدها أعمار، وأن النبي، تلقّى الوحي في الأربعين، وأن كبار السنّ غالبًا هم الأكثر تقديرًا لهذه العلوم. واختتم مؤكدًا أن تضييق الطريق أمام هؤلاء سيحرم الأزهر ومصر من تخريج سفراء دولة التلاوة، الذين يمثّلون القوّة الناعمة الحقيقية لمصر في العالم، وينشرون صورة وسطية الإسلام في كل مكان.