السيد مختار على محمد مؤسِّس الطريقة الدسوقية المحمدية
عندما تحسَّست طريق مشاعرى ناحية الكتابة اعتبرت اللغة نوعاً من العَزْف على بيانو نستمتع به لذاته، فمارست رقابة موسيقية شديدة على تشابك الحروف والكلمات لتحافظ على الوزن والرنين، لكن فيما بعد تخلّصت من هذه الأفكار، وكسرت حواجز الحدود بين ما أكتب وما يقوله الناس، فالجمال لا يُطلب لذاته وإنما يُطلب لنفعه وإلا صِرْنا عَبَدَة أوثان منحوتة من الكلمات .
أما الكلمة التى توقّفت عندها طويلاً وشَعُرت بأنها مثل فرسٍ جامحٍ تصعب السيطرة عليه فهى كلمة “بدعة” إنها الكلمة التى تفتح أبواب الجدل والشجار بين المسلمين وتجعلهم فى حالة نفور دائم وكأنّهم فى حالة مزمنة من حالات الحرب الأهلية، فكل من أراد أن يحرِّم علينا شيئاً وصفه بالبدعة، وكل من أراد أن يجعلنا نمشى على الأشواك والمسامير والزجاج المكسور وصف ما نفعل بأنه بدعة. ولأن الناس يحرصون بشدَّة على دينهم ويتفانون فيه فإنهم يخشون على أنفسهم من البدعة، كل ما لم يكن معروفاً فى عصر الرسول- عليه الصلاة والسلام- اعتبرناه بدعة. وخشينا على أنفسنا منه، فالرسول يقول: “إياكم ومُحْدَثَات الأمور فكلّ مُحْدَثَةٍ بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار”. وقوله: “من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ” أى مردود عليه .
لقد استُخدم هذا الحديث الشريف فى إخراج المسلمين من العصر الذى نعيش فيه، فبدأ بعضنا ونحن فى عصر الفضاء والإنترنت والكمبيوتر وكأنه ينتمى إلى عصر الكهف، وقد راح كل منا يناقش كل مظهر من مظاهر هذا العصر على أنه بدعة، وتورّطنا فى تفاصيل كل شئ على حدة، فَتَاه الناس وتُهنا معهم، وضاع الناس ولحقنا بهم، فقد خلت المناقشة من تعريف للبدعة نقيس عليه كل ما يصادفنا من مظاهر، خلت من القانون والقاعدة والميزان .
لقد فتح الله علينا بتعريف للبدعة يمكن أن نقيس عليه ونزن به. البدعة هى إطلاق ما قيَّده الله ورسوله، أو تقييد ما أطلقه الله ورسوله، كل ما لا ينطبق على هذا التعريف نعتبره بدعة نتجنّبه ونرفضه، فنريح ونستريح .
إن العبادات مقيدة لا يجوز إطلاقها. إطلاقها هنا بدعة. العبادات مقيّدة إما بمكان وزمان كالحج (الزمان: 9 من ذى الحجة، والمكان: جبل عرفات). أو بزمان وجهة وهيئة مثل الصلاة (الزمان: مواقيتها المعروفة، والجهة: القِبلة شطْر المسجد الحرام، والهيئة: السجود والركوع والجلوس). أو بزمان مثل الصوم (شهر رمضان). أو بزمان وقيمة مثل الزكاة بمختلف أنواعها (زكاة الفطر وزكاة المال وزكاة الزروع كل منها له وقته وقيمته). أما شهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله (وهى أهم العبادات) فليست مقيَّدة بزمن أو جهة أو قيمة أو هيئة أو مكان، فمن أطلق ما قيَّده الله ورسوله يكون قد ابتدع. فالحج لا يمكن أن يكون فى شهر رمضان. والصوم لا يمكن أن يكون فى شهر شوال. والزكاة لا يمكن أن تكون على هوى الإنسان. ووقفة عرفات لا يمكن أن تكون فوق جبل المقطم. وصلاة العشاء لا يمكن أن تكون ثلاث ركعات. إن تجاوز هذه الحدود الواضحة هو البدعة بعينها والتى تنتهى بصاحبها فى النار. أما ما هو مُطْلَق، مثل الصدقة فلا يجوز لأحد تقييدها أو تحديدها ولو فعل ذلك يكون قد ابتدع .
إن هناك أشياء قيّدها الله ورسوله من أطلقها فهو مبتدع لأنه يكون قد أحدث فى الدين ما ليس منه. هذه هى القاعدة. وقد يكون من المريح القياس عليها. فننجو من تُهمة البدعة التى أضلّتنا وأوصلتنا جميعاً إلى جهنم ونحن لا نزال على قيد الحياة. إن النبى يقول: “من سنّ فى الإسلام سُنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة دون أن ينقص من أجورهم شئ”. هذا هو الاجتهاد لفهم النص “ومن سنَّ فى الإسلام سُنَّة سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة دون أن ينقص من أوزارهم شئ”. هذا هو الاجتهاد لمخالفة النص. إطلاق المقيَّد. أو تقييد المطلق. هذا هو القانون، الميزان، القياس، وسيلة الحساب. وقد صِيْغت لحماية العبادات. لتفتح الباب لقبول كل ما هو جديد بعد ذلك فى مجالات العادات. يقولون “التورتة” بدعة، دون أن ينتبهوا أنها فى أصل مكوّناتها دقيق ولبن وسكر وسمن. فهل فى هذه المكوّنات ما هو حرام؟ ويقولون عروس المولد وحصان المولد بدعة. ليس فى مكوّنات هذه الحلوى ما هو حرام. أما الخوف من أن العروس الحلاوة أو الحصان الحلاوة وثناً فهذا كلام يسهل تفنيده. إن التمثال إذا لم يُعبد لذاته أو ابتغاء شئ أو ليقرّبنا إلى الله فهو مجرد تمثال فلو عبدناه ليقرّبنا إلى الله فهو صنم فإن عبدناه لذاته فهو وثن. وهذه التماثيل المصنوعة من الحلوى والتى كان يسجد لها عظماء الناس قبل الإسلام أصبحت لعب أطفال بعد الإسلام. ولم نسمع عن أحد عَبَدَها. ولو كنا خِفْنا على إيماننا من تمثال لحصان فما بالنا لو وجدنا أمامنا حصاناً حقيقياً؟!
لقد دخل الصحابة فى خلافة سيدنا عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- إلى مصر وكانوا حُكَّاماً ولم يكونوا مستضعَفين وتجوّلوا فى عرْض البلاد وطولها وشمالها وجنوبها ورأوا معابد الفراعنة وتماثيلهم من مختلف الأشكال والأحجام ولكن ما سمعنا أن صحابياً من الصحابة الأجلاء كسَر تمثالاً، لأنهم كانوا يعرفون أنها ترجمة لحضارة لا يجوز تحطيمها. وتمثال رمسيس شاهد على ذلك من عشرات القرون، فلم نجد أحداً يبقى إليه بقربان، أو يتقرّب إليه بشئ. هل نحن أدرى من صحابة رسول الله الذين تعلَّموا منه؟!
كان الرسول قبل الهجرة إلى المدينة يطوف بالبيت الحرام والأصنام من حول الكعبة، كانت بالنسبة إلى غيره معبودة لكن لم تكن بالنسبة إليه ذات قيمة، ولم يمنع ذلك أنه رسول الله، وعندما هاجر إلى المدينة وبعد تغيير القِبلة كان يصلّى فى اتجاه البيت الحرام والأصنام لا تزال حول الكعبة، لماذا لم يكسرها الرسول كما كسرها أبوه إبراهيم- عليه السلام- لقد كسر إبراهيم بعضها وترك بعضها فكان أن نتج عن ذلك أن عبدة الأصنام والأوثان قد استدركوا واستوعبوا أنها كانت هشَّة. تُصنع من طين، فكان أن جدّدوها ونحتوها من حجارة صلبة، يصعب كسرها، لقد حسّنوها وزيّنوها وراجت تجارتها .
لقد جاء الرسول لينزع العلاقة الداخلية بين قلب المؤمن وهذه التماثيل فعلَّم المسلمين أنه (لا إله إلا الله) فأدركوا أنها ليست آلهة فانتزعت هيبتها من قلوب المسلمين فماتت واقفة دون أن يمد الرسول يده الكريمة ليكسرها. وعندما فتح الله عليه مكّة دخل البيت الحرام وليس فى يده فأس أو بَلْطَة، بل قضيب صغير، دخل البيت الحرام ليتلو قول الحق سبحانه وتعالى: “وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً”، وكان كلّما أشار إلى تمثال انكفَأ على وجهه أو انقلب على قفاه فلا يجد مسعفاً ولا منقذاً من أولئك الذين كانوا مع رسول الله. فكانوا يدحرجونه بأرجلهم حتى يخرجوه. كل هذا لأن الإسلام نزع العلاقة القلبية بين الإنسان والحجر.