تغمر الأمّة الإسلامية الفرحة والسرور عندما يهلُّ هلال ربيع الأنور؛ فرحًا وابتهاجًا بمولد النبي الأعظم والحبيب المكرّم صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقد كان مولده نورًا، ومَحْيَاه جمالًا، ومبعثه كمالًا وجلالًا، فقد جاء مولده مبشّرًا بتمام قيم الإنسانية، وتصحيح ما شابَها من اعوجاج وانحراف، فقد وُلد النبي وولدت معه قيم الرحمة والحب والجمال والعطف والتسامح وتقدير الإنسان وجبْر خاطره.
لقد أعلى النبي من القيم الإنسانية، وأعاد تعريفها وضبطها، ووضع لها المنطلق الذي تنطلق منه، والركيزة التي تدور عليها.
فأمر بالرحمة وعلَّمنا كيف تكون، وأمر باحترام الإنسان من حيث هو، بصرف النظر عن دينه أو جنْسه، ففتح الباب لغير المسلمين في المدينة للتعايش، ووضع معهم وثيقة تحفظ لهم وللمسلمين حقوقهم، وكفَل لهم أداء عباداتهم بحُرِّيَّة، ومنعَ وأْدَ البنات وكان عادةً عند بعض العرب، بل إنه- صلى الله عليه وسلم- كان يكرم بناته غاية الإكرام، فكان يقوم للسيدة فاطمة رضي الله عنها ويجلسها في مجلسه، وكان يكنِّيها بـ”أمّ أبيها”، ويقول: ((فاطمة بَضْعَةٌ منِّي))، وقَبِل شفاعة ابنته زينب- رضي الله عنها- في زوجها الذي وقَع أسيرًا في أيدي المسلمين، وكانت الأَمَة من إماء المدينة تأخذ بيده- صلى الله عليه وسلم- حيث شاءت حتى يقضي لها حاجتها، ومنع أن تكون المرأة إرْثًا يؤول لأقارب الزوج، كما كان الحال قبل الإسلام، بل جعل لها حظًّا من الميراث، وكفَل لها الحق في اختيار الزوج، وأوجب لها الاحترام والتقدير والإكبار.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يداعب الأطفال ويلاعبهم، ويلاطفهم ويراعي مشاعرهم، حتى واسى طفلًا صغيرًا في عصفور له مات، ويترَأَّف بهم حتى كان يتجوَّز في صلاته حين يسمع بكاءهم.
وكان يتفَقَّد أصحابه، ويعود مَرْضَاهم، ويقيِل عثراتهم، ويراعي خواطرهم، ويساعد المحتاجين منهم، وما أمْرُ سيّدنا سلمان الفارسي -رضي الله عنه- ببعيد؛ حيث ساعده- صلى الله عليه وسلم- في مكاتبته، فغرس له ثلاثمائة نخْلَة كان -رضي الله عنه- قد كاتب عليها سيِّدَه.
ثم تتّسع رحمته وإنسانيته لتشمل الحيوان والطير وحتى الجماد، فقد أنصف جملًا شكَا إليه صاحبه وقد دمعت عيناه، فقال لصاحب الجمل: ((ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَكَّك الله إيّاها؛ فإنه يشتكي إليَّ أنك تُجيعه وتدئبه))، ورَقَّ- صلى الله عليه وسلم- لأنثى طير أخذ بعض الصحابة فرْخيها، فجاءت ترفْرِف بجناحيها فوق رسول الله كالشاكية له، فقال: ((من فجَعَ هذه بولدها؟ ردُّوا ولدها إليها)) وحين أنَّ الجذعُ وحنَّ إليه احتضنه بين يديه فسَكَن.
فما أحوجنا –ونحن نعيش ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم- إلى أن نترسَّم رسومه، ونهتدي بهديِه؛ حتى نترقَّى في معارج إنسانيته.