انتشر في الآونة الأخيرة ارتكاب العديد من الجرائم التي تُدمي القلوب وتقْشعر من آثارها وبشَاعتها الأبدان، جرائم أودَت بحياة العديد من مختلف الأعمار، جرائم أدخلت الحزن والبأس في العديد من البيوت، وأشغلت بال معظم أبناء الوطن، تمثّلت في مقتل الضحايا على يد أناس لا قلب ولا عقل لهم، ومما يزيد من آلام هذه الجرائم وشدّتها على قلوب أسر الضحايا أن مرتكبيها يتذرّعون للإفلات من العقاب بحجّة أنهم مرضى نفسيين أو يعانون من ظروف نفسية أو عقلية أو أنهم قاموا بذلك تحت تأثير العقاقير المخدِّرة، وما حادثة مقتل فتيات العِنب منّا ببعيد.
الأمر الذي يقتضي استجلاء الحقيقة وبيان الحكم الصحيح لهذه الظاهرة والتصدّي لها من الناحيتين الشرعية والقانونية:
ففي الفقه الإسلامي: تباينت آراء الفقهاء حول مسئولية السكران عن تصرّفاته وأفعاله، على رأيين: الأول: ويذهب أصحابه إلى القول بعدم مسئولية السكران عن تصرفاته وأفعاله سواء تم السُكر باختياره أم بدون اختياره لزوال عقله عند إتيانه هذه التصرّفات أو الأفعال، ومن ثمّ عدم توافر إدراكه في هذا الوقت، ويستندون في ذلك إلى ما يلي :
– ما جاء في خبر ماعز -رضي الله عنه- وفيه أن رسول الله قال: “أبه جنون؟” فأخبر أنه ليس بمجنون. فقال: “أشرب خمراً؟”. فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر. فماعز -رضي الله عنه- لمَّا أقر بالزنى سأل النبي عن حال عقله، فسأل: أهو مجنون؟ فلما أُخبر أنه ليس بمجنون، سأل: أهو سكران؟ فاستُنكه فلم يُوجد منه ريح الخمر، ثم أمر -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك بإقامة الحد عليه. (مسلم 3/1322)
ويُفهم من هذا الحديث أن السكران كالمجنون حيث سال النبي عن الجنون، ثم سأل عن السكر لعدم مؤاخذة ماعزبإقراره لزوال عقله بأي منهما.
الرأي الثاني: ويذهب أصحابه إلى القول بمسئولية السكران باختياره عن جميع أفعاله وتصرّفاته سواء ارتكبها عمْدًا أم خطأ؛ لأنه هو الذي تسبّب في زوال عقله، كما أن السكر أمر معاقب عليه شرعًا، أما السكران بدون اختياره كالمكره أو المضطر، أو من لا يعلم بأن هذا مُسْكر أو من تناوله للتداوي فلا مسئولية عليه شأنه شأن المجنون والصبي وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية الشافعية والحنابلة، ويستندون في ذلك للعديد من الأدلّة والتي منها :
– قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ”. (الآيتان90،91 من سورة المائدة).
– ما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه استشار الناس في حد شرب الخمر بعد تجرّؤ الناس عليها وكثر شربها فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “السكران إذا شرب هذى وإذا هذى افترى فاجعله في حد الفرية” (موطأ الإمام مالك 2/742)
تبيّن مما سبق تعاطي المخدّرات وغيرها من العقاقير المخدّرة معصية لله تعالى ولا يجوز أن تكون المعصية سببًا لتخفيف العقوبة أو تخفيفها، الأمر الذي يقتضي معاقبة من يُقْدِم على ذلك سدًّا للذرائع. (المغني لابن قدامة 2/78)
ومن الناحية القانونية: نجد أن تشريعات العديد من الدول العربية، ومنها قانون العقوبات المصري، تقرّر مسئولية السكران أو من فَقَد وعيه باختياره عما يصدر منه من أفعال أو يقوم به من تصرّفات، حيث تنصّ المادة 62 عقوبات مصري على أنه: “لا يُسأل جنائياً الشخص الذي يعاني وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسي أو عقلي أفقده الإدراك أو الاختيار، أو الذي يعاني من غيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدّرة أيّاً كان نوعها إذا أخذها قهْراً عنه أو على غير عِلْم منه بها”.
فهذا النص يقرّر بمفهوم المخالَفة أن من فَقَد وعيَه باختياره، كأن يتناول عقاقير أو مواد مخدّرة وهو في كامل وعيه، فإنه يكون مسئولًا عما يقترفه من أفعال وما يصدر منه من تصرّفات؛ لأنه المتسبّب في زوال وعيه، فضلًا عن تناوله لهذه العقاقير والمواد المخدّرة المحظورة قانونًا.
ومن ثمّ يذهب جمهور الفقه القانوني إلى عدم تطبيق ظاهر هذا النصّ على من يتعاطون المخدّرات والعقاقير باختيارهم، كسائقي سيّارات الأجرة وغيرها ممن يدمنون هذه المُسْكِرات، ومن ثمّ يقرّرون مسئوليتهم الكاملة عمّا يصدر منهم أفعال أو أقوال سواء أكانت عمْدا أم خطَأ.
كما قرّرت محكمة النقض المصرية بوضوح، مسئولية من يتناول عقاقير أو مواد مخدّرة باختياره ما يقترفه لتوافُر القصد الجنائي لديه؛ حيث تقول صراحة في ذلك: “من المقرّر أن الغيبوبة المانعة من المسئولية على مقتضى المادة 62 عقوبات هي التي تكون ناشئة عن عقاقير مخدّرة تناولها الجاني قهراً عنه أو على غير علم منه بحقيقة أمرها بما مفهومه أن من يتناول مادّة مخدّرة أو مسْكرة وإن علم بحقيقة أمرها يكون مسئولاً عن الجرائم التي تقع منه وهو تحت تأثيرها، فالقانون يجري عليه- في هذه الحالة- حُكم المُدْرك التام الإدراك مما ينبني عليه توافر القصد الجنائي لديه” الطعن رقم 72594 لسنة 75ق.
بل إن قوانين بعض الدول العربية تقرّر مسئولية السكران أو من يتعاطى المواد المخدّرة سواء تناولها باختياره أم رغمًا عنه وسواء ما قام به كان عمْدا أو خطأ، بل يعتبرون السُكْر من الظروف المشدِّدة للعقوبة باعتباره جريمة مستقلّة إلى جانب ما اقترفه هذا الشخص من جرائم تحت تأثير المخدّرات، وهذا ما ذهب إليه أيضا جانب كبير من الفقه القانوني حرصا على المصلحة العامة وحفاظا على أفراد المجتمع في ظلّ تزايد الحوادث المرورية التي تودِي بحياة العديد من المواطنين والذين لا ذنب لهم إلا أنهم كانوا مع سائق يتعاطى العقاقير المخدّرة.