بقلم: د. عمرو محمد سيد إمام
أستاذ الدعوة ومقارنة الأديان المساعد
بكلية أصول الدين وعلوم القرآن
جامعة السلطان عبدالحليم معظم شاه الإسلامية
العالمية بولاية قدح بماليزيا
رحل يوم الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الأنور لعام 1447ه، الموافق الخامس من سبتمبر 2025م الأستاذ الشيخ صبري بن محمد أرشاد مدير معهد الدعوة الإسلامية بولاية بينانج بماليزيا عن عمر ناهز اثنتين وستين عاما قضاها في العلم والدعوة، شيد خلالها معهد الدعوة الإسلامية بولاية بينانج وذلك بعد دراسته في الأزهر الشريف وعودته من مصر، كان الأستاذ الراحل رجلا شهما كريما، مخلصا للدعوة الإسلامية ورسالة الأزهر التي حمَّلها له أحد أساتذته-كما أخبرني بنفسه- يوم امتحان الشفوي وهو في السنة النهائية بالجامعة الأزهرية عندما قال له: ياشيخ صبري نريد منك بعد العودة أن تجد في حمل الدعوة الإسلامية في ماليزيا ولا تنشغل بغيرها من الأمور، هذا طلبنا منك.
ابتلي في آخر عمره بفقد بصره فصبر واحتسب، وقبل ذلك ابتلي بمرض الكلى، فكان رغم تعبه ومشقة الغسيل الكلوي ثلاث مرات في الأسبوع حريصا على استكمال رسالته في العلم والدعوة، والسعي في الإصلاح بين الناس ومساعدة المؤسسات الدعوية الناشئة.
لقد لقيته وعرفته عن قرب وتزاورنا منذ عشر سنوات تقريبا ودامت صداقتنا حتى وفاته فكان رجلا عظيما، كان محبا للأزهر الشريف حريصا على حمل رسالته راعيا لمنهجه وناشرا له في شرق آسيا ، أسأل الله أن يرفع مقامه وأن يجازيه بالإحسان إحسانا وبالسيئات عفوا وغفرانا.
وهذه ترجمة له كتبتها عنه في بحث لي قبل فترة عن التعليم الديني في ماليزيا كما سمعتها منه:
ولد الشيخ صبري في قرية جارا أتس بولاية بينانج في 1963م، ولما بلغ من العمر سبع سنوات التحق بالمدرسة الإبتدائية فادع منورا بولاية بينانج في عام 1970م وذلك لمدة ست سنوات ، ثم التحق بالمدرسة الثانوية فادع منورا بولاية بينانج لمدة خمس سنوات فتخرج فيها عام 1980م، وبعد ذلك مارس التجارة لمدة سبع سنوات تقريبا وخلالها استكمل طلب العلم، حيث التحق بالمدرسة الخيرية الثانوية لمدة سنة واحدة رغبة في إكمال المسيرة التعليمية وذلك في عام 1985م تقريبا.
سافر إلى مصر لمدة سنة واحدة للالتحاق بمعهد البعوث فَقُبِل في الصف الثالث الإعدادي بالقاهرة وكان عمره 23 عاما تقريبا وكان ذلك في يناير 1986م، غير أنه آثر العودة إلى ماليزيا بعد المشاورة مع الملحق الثقافي بالسفارة الماليزية في مصر للحصول على الشهادة الدينية الماليزية بغرض الالتحاق بجامعة الأزهر وحصل من السفارة على تزكية لالتحاق بمدرسة النهضة الحسنة الإسلامية بجترا بولاية قدح، فالتحق بها في عام 1987م، وفي أكتوبر من السنة نفسها انتهى من الدراسة وحصل على الشهادة الدينية المعادلة من الأزهر، وعاد إلى مصر مرة أخرى والتحق بجامعة الأزهر الشريف في عام 1988م بكلية أصول الدين بالقاهرة، وفي السنة الثالثة تخصص في الدعوة والثقافة الإسلامية، وتخرج فيها في عام 1995م، ثم بعد التخرج كانت العودة إلى ماليزيا لممارسة الدعوة لمدة سنة واحدة.
وفي عام 1997م سافر إلى مصر مرة أخرى للالتحاق ببرنامج تدريب الوافدين بدار الإفتاء المصرية لمدة سنة واحدة أنهى خلالها دورة معتمدة في الإفتاء عاد بعدها إلى ماليزيا، وبعد الاستقرار في وطنه مارس الدعوة بالعاصمة الماليزية كوالا لمبور لمدة أربع سنوات وكانت من دعاتها المشهورين في تلك الفترة، رجع إلى قريته وأسس معهد الدعوة الإسلامية بولاية بينانج عام 2000م تقريبا.
مواقف من حياته:
عاش الشيخ صبري عمره المجيد داعيا ومربيا، فكان يحرص كل خميس ليلة الجمعة على قراءة سورة يس مع مجلس التهليل بمقر مدرسته مع تذكرة يحضرها الكثير من الناس من أهل القرية، والقرى المجاورة ، وغالبا ما تكون الموغظة منه أو من أحد الأساتذة الذين توجه لهم الدعوة للحضور، وكانت الموعظة يغلب عليها الجانب الإيماني فكانت تدفع للعمل الصالح مع تزكية النفس، والدعوة إلى إعمار الأرض، وتعالج بعض الأخطاء السلوكية والفكرية داخل المجتمع، وقد حضرت بعضا من هذه المجالس فكان يشع منها النور، وتتنزل عليها البركات والرحمات، وهكذا أبناء الأزهر أينما رحلوا يحملون رسالته ويزودون عنها.
كان رحمه كثير التنقل والترحال داخل ماليزيا لتبليغ رسالة الإٍسلام والدعوة إليه، والسعي لاستكمال المعهد والإنفاق عليه، فكان لا يكل ولا يمل منذ عاد من مصر قبل ثلاثين عاما تقريبا، ورغم مرضه الشديد آخر عمره فلم يكن المرض مانعا من أداء الرسالة التي كلفه الله بها، مع إخلاص تام حتى أدى الأمانة على أكمل وجه.
وفاته ومبشرات حسن الخاتمة:
في يوم الخميس الحادي عشر من ربيع الأول1447ه-الموافق 4 سبتمبر 2025 ورغم مرضه الشديد اتصل بصديقه وصديقنا الأستاذ محمد حلمي بن حاج أحمد-وهو من أبناء الأزهر الشريف حيث درس بكلية أصول الدين قسم التفسير، وهو رفيق الأستاذ صبري في رحلته الدعوية وبناء المعهد-وأخبره بأنه يريد أن يذهب لمصلى المعهد بعد المغرب لكي يقرأ سورة يس مع الطلاب ويشاركهم مجلس التهليل والصلاة على رسول الله-صلى الله عليه وسلم- احتفالا بليلة مولده الشريف، وقد ذهب الشيخ صبري بالفعل وحضر المجلس وشارك الطلاب هذه النفحات الإلهية ليلة الجمعة التي توفي فيها، وفي يوم الجمعة الساعة الثامنة صباحا صعدت روحه إلى بارئها في المعهد الذي عاش طيلة حياته يقوم على رسالته، وشيعت جنازته بعد صلاة العصر في اليوم نفسه، وكانت جنازة مشهودة، حضرها الكثير من أهل العلم والفضل، مع حضور ليس له مثيل من أهل قريته وولايته، كما حضرها جمع من طلابه ومحبيه في الولايات القريبة، وحضرها أيضا صاحب السماحة مفتي ولاية بينانج، وحضر كذلك معالي نائب رئيس وزراء ولاية بينانج بروف محمد بن عبدالحميد تقديرا للراحل وما قدمه من علم وجهد خلال حياته الدعوية.
من صفاته رحمه الله :(الإخلاص- الجد والاجتهاد- الكرم – التواضع-السعي في قضاء حوائج المسلمين- الفكر والإبداع).
لقد فرغ الأستاذ صبري وقته وحياته للعلم والدعوة فكان يلقي درس الفجر، والمغرب كل يوم غالبا، وفي بعض الأيام يلقي موعظة خاصة وقت الضحي-في العاشرة صباحا- في أماكن خاصة، مع أداء خطبة الجمعة منذ أن استقر بماليزيا عام 1997م وحتى وفاته 2025، وكان خطيبا بارعا مفوها يأخذ بالقلوب والعقول، وهذا كله يدل على همته وجهده في الدعوة وإخلاصه لها.
كان رحمه الله ورضي عنه محبا صادقا للجناب النبوي الشريف، وكان يحتفل بمولده في كل عام ويحضره العديد من العلماء والدعاة طوال هذه الفترة، وربما استمر الاحتفال يومين متتالين.
كان معظما للأزهر الشريف منهجا وسلوكا، ملتزما بهذا المنهج في مشاركته كلها داخل المجتمع ، محاربا ومواجها لكل فكر شاذ، أو منحرف يحاول أن ينال من الإسلام ويقوض رسالته.
كان محبا للقراءة والاطلاع شغوفا بالنظر في كتب التراث عقيدة وشريعة وأخلاقا.
كان كريما مضيفا يقبل على أهل العلم والدعوة باحترام وود مع تبجيل واستماع لأقوالهم وإن كانوا أصغر منه، يدوام على السؤال والاستشارة.
رحل الأستاذ صبري وخلف تسعة من الأولاد ستة من الذكور وثلاثا من الإناث، اثنين من أولاده يحملون رسالته ويقومون عليها، ويمضون بجد واجتهاد في تبليغها، وهم طلابنا النجباء محمد أيمن بن صبري، ومحمد فواز بن صبري، وكلاهما يسير على نهج والداه في العلم والدعوة.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبل عبده الأستاذ صبري بقبول حسن، وأن يخلف على العلم والدعوة في ماليزيا بالخير، وأن يجعل أولاده ممن يحملون أمانة العلم والدعوة في هذه البلاد سيرا على نهجه.
والحمد لله رب العالمين